تحيا جمهورية جنوب أفريقيا العربية
أتابع باحترام وتقدير بالغين ما يكتبه صديقي العزيز الكاتب الصحافي وائل قنديل في صحيفة "العربي الجديد". وكان قبل أيام، قد "استفزني" ما تناوله في مقالين متتاليين، أحدهما عن موقف جنوب أفريقيا التي "جرجرت" الكيان الصهيوني إلى محكمة العدل الدولية بهدف معاقبتها على جرائم الإبادة التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني، حيث دعا الدول العربية التسع الموّقعة على اتفاقية عمل المحكمة إلى دعم جنوب أفريقيا.
أمّا المقال الثاني فيتعلق بالإرهابي مرتدي ثوب الدبلوماسي، داني دانون، ممثل الكيان المصطنع في الأمم المتحدة، وفيه يكتب عن واقعة دعم أربع دول عربية لاختيار دانون في 2017 رئيسًا للجنة القانونية بالأمم المتحدة، المعنية بمكافحة الإرهاب! (الاختيار جاء بالطبع وفقًا لخبراته، وربّما مكافأة له على دوره في حرب 2014، حيث عمل كنائب وزير الحرب الصهيوني، وقد عُرف بدمويته وعنصريته).
ويبدو أنّ صديقي النبيل ما زال يملك القدرة على الحلم، حتى لو كان مستحيلًا، عندما يظن (مجرّد الظن) أنّه يمكن لبلد عربي ضمن جوقة الـ 9، أو حتى الـ22 لو أتيحت لهم الفرصة، أن ينضم لجنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل. إذ كيف لنا أن نتصوّر أنّ القادة والزعماء العرب يمكن أن تأتيهم الجرأة ليناطحوا أميركا رأسا، وقد أعلنت بوضوح أنّ مثل هذه الدعوة "لا أساس لها" و"تؤتي نتائج عكسية"!
هكذا بكلّ صفاقة، كلّ ما يجري أمام أعيننا من جرائم إبادة لم تشهد لها البشرية مثيلاً في العصر الحديث مجرد" فوتوشوب" برأي رعاة البقر!
لقد بات الحديث عن خذلان الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية مملاً، خصوصاً أنّ هذا التخاذل للأسف، طاول المؤسسات والتنظيمات والجماعات السياسية التي اعتادت طوال عقود خداع الجماهير عبر زعمها الدفاع عن حقوقنا المغتصبة في الأراضي المحتلة، وعن حتمية الاستعداد لمواجهة العدو، فلّما حانت اللحظة وجدّ الجد تبخر الجمع.
وعلى سبيل المثال، يمكن مراجعة ما كتبه مدير مركز دراسات الخليج الدكتور عبد الله باعبود في جامعة قطر، والذي كان متواجدًا للتدريس في إحدى الجامعات في طوكيو عندما بدأ جيش الاحتلال حربه الهمجية ضد أهلنا في غزّة. وبعد أن استغرب الرجل من الانحياز الياباني للكيان الصهيوني، سأل أطرافا بوزارة الخارجية اليابانية عن السبب، فكانت الإجابة الصادمة بأنّ دولاً عربية أشارت عليهم بالوقوف إلى جانب الاحتلال!
أحسنت جنوب أفريقيا بعدم استجابتها لما يُشاع عن طلب دول عربية في اللحظات الأخيرة الانضمام إليها
هل أزيدكم من مرارة الشعر بيتاً آخر؟!
حسناً، إليكم ما حدث في المغرب الشقيق قبل نحو شهرين، حيث طالبت ما يسمّى "الجمعية الإسرائيلية من أصل مغربي" أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس بمناصرة الكيان في حربه على غزّة!
مرّت الرسالة الوقحة دون رد من كافة الأطياف السياسية في المملكة، ولم يفتح أحد منهم فمه، في حين هاج وماج بعض المتصهينين ضد القيادي في حركة حماس، خالد مشعل، عندما وجه كلمة في إحدى الفعاليات التي أقيمت هناك تضامناً مع المقاومة، فقط لأنه دعا أهلنا في المغرب إلى رفض كافة أشكال التطبيع، واعتبروا كلامه تدخلاً في الشؤون الداخلية.
كلّ التحية بالطبع لجنوب أفريقيا التي تسلّحت قيادتها بالإرادة كي تتحدّى اللوبي الصهيوني وتعاديه بكلّ قوة. نعم إنّ بلد المناضل نيلسون مانديلا، لديه دوافعه، هو الذي عانى كثيرا من الأبارتهايد، حتى نجح عام 1994 في إطاحة النظام العنصري. ومن عاش الظلم والاستبداد وذاق مرارته وتجرّع آلامه، يدرك حجم ما يتركه من ندوب على الروح، ويعلم جيّدا أنّ جروحه تبقى مفتوحة لا تندمل بسهولة بمرور الزمان. ومن ثم فإنّ تجربة هذا البلد الأفريقي ملهمة لشعبنا الفلسطيني، ويقيناً، إنّ ما حققه مانديلا ورفاقه يمضي أبطالنا البواسل بكلّ عزيمة وثبات نحو تحقيقه على أرضنا المحتلة حتى التحرير.
لقد أحسنت جنوب أفريقيا بعدم استجابتها لما يُشاع عن طلب دول عربية في اللحظات الأخيرة الانضمام إليها، ذلك أنّ مثل هذا الموقف المتأخر يحمل الكثير من الشك والريبة، وربّما يعرقل خطوات المحاكمة، خاصة في إطار السعي الجاد نحو إيقاف عملية الإبادة التي يمارسها جيش الاحتلال بحق الأبرياء العزل. وما رأيناه خلال جلسات المحكمة يثبت مدى جدية جنوب أفريقيا وجاهزيتها بملف موثق ومكتمل الأركان لإدانة النازيين الجدد، ومن ثم فهي ليست بحاجة لمن يأتي في اللحظة الأخيرة من أجل "اللقطة" و"الشو".
لكن من باب السخرية، دعونا نتصوّر سيناريو غريب وعجيب ينتمي لعالم الفانتازيا، فلنتخيّل في مثل هذه الأجواء العبثية أنّ دولة جنوب أفريقيا كانت تحتاج بالفعل دعمًا عربيًا في إطار سعيها لطرح القضية في الهيئات الدولية، فيأتيها الرد الصاعق (كلّ دولة وفق أجندتها وأولوياته): ماذا لديكم لتقدموه لنا في مقابل الدعم الذي تطلبونه لنصرة قضية فلسطين؟
وهكذا (وفقا للخبراء الاستراتيجيين الذين ابتلينا بهم في قنواتنا الفضائية العربية) يجب أن يكون الحوار صريحًا ومباشرًا، ودون لف ولا دوران، فكما تعلمون لا مجال في عالم السياسة للمجاملات، وعلينا أن ننظر لمصالح بلداننا العليا!