تبنا إلى الرئيس!

03 يناير 2021
+ الخط -

"ليس عيباً أن نتحلى بالشجاعة ونعترف أن المعارضة ليست أكثر من شهوة نجري وراءها، وآن الأوان لنا في أول يوم من هذا العام الجديد أن ننبذ هذه الشهوة، ونعود إلى وعينا ونراجع أنفسنا في حق هذا العهد المبارك، وأن نستجيب لدعوات وعاظ الصحف القومية، فنتوب إلى الرئيس ونندم على ما فعلنا ونعزم على ألا نعود أبداً.

بصراحة ما الذي نريده أكثر مما لدينا بالفعل، لدينا حاكم محبوب يجبره دائماً الشعب على أن يبقى في سِدّة الحكم مع أنه لا يريد ذلك أبداً. ولدينا مشروع رئيس قادم تحسدنا عليه الدول الصناعية السبع والدول الزراعية التسع... لدينا أطول نهر في العالم وأطول رئيس وزراء في العالم وأطول ليل بهيم في العالم. لدينا أكثر وزراء الأرض نزاهة ونظافة يد وعقل وعفة لسان ودماثة خلق وبُعداً عن مطامع الدنيا وشهواتها، كلما أقبلت الدنيا على وزير منهم انتفض وقال لها غُرّي غيري غُرّي غيري، وهي ترفض وتأبى إلا أن تقبل عليه فلا يرضى أن يكسر بخاطرها.

لدينا أقوى صحف قومية في العالم توزيع كل منها يفوق العشرة ملايين نسخة، يرأسها أكثر الصحفيين موهبة وتميزاً وحرفية، تنفرد كل منها كل يوم بعشرات الأخبار التي لا يعلمها أحد وتشارك في صناعة القرار بشكل فعال وتُسقِط وزارات وتأتي بأخرى، لا يمكن أن تكمل أي مقال لرؤساء تحريرها لكيلا تَسقط مغشياً عليك من فرط تأثرك بما يكتبه وانبهارك الشديد به. لدينا أحزاب جماهيرية يرأسها رجال صدقوا ما عاهدوا رئيس الجمهورية عليه منهم من قضى نحبه ومع ذلك يستمر في رئاسة الحزب ومنهم من ينتظر. لدينا أقوى اقتصاد في "المنتئة" بحالها.

لدينا أقوى حركة ترجمة في العالم بدليل أننا قضينا ربع قرن كامل في محاولة ترجمة الوعود البراقة إلى واقع ملموس. لدينا أطيب وأحنّ نباتات في العالم جاهزة للتعايش مع أي مبيدات أو هرمونات أو مخلفات بشرية أو بلاء أزرق نيلي

لدينا أقوى حركة ترجمة في العالم بدليل أننا قضينا ربع قرن كامل في محاولة ترجمة الوعود البراقة إلى واقع ملموس. لدينا أطيب وأحنّ نباتات في العالم جاهزة للتعايش مع أي مبيدات أو هرمونات أو مخلفات بشرية أو بلاء أزرق نيلي. لدينا أكبر سجون في العالم تتسع للمّ كل من لا يقتنع أن المعارضة تماماً كالجريمة لا تفيد. لدينا أقوى مصانع لتجميع كل شيء تصنعه الشعوب الأخرى. لدينا أقوى مستهلك في العالم معدته تأكل الزلط وجوارح الطيور ولحوم الحمير لأنه يؤمن أن الحياة حلوة بس نفهمها. لدينا أكثر دساتير الأرض جلالا وبهاءً وتعقيدا، دستور يليق بأمة مثلنا.

لدينا أكبر حملة تضامن مع مرضى السرطان في العالم وأكبر عدد من مرضى السرطان أيضا لكي نتمكن من التضامن معهم. لدينا ألذ مشايخ في العالم يرفعون راية الإسلام الدايت الذي لا يقول لا أبدا إلا لمن شذ عن السبيل واتخذ سبيله في المعارضة سَرَبا. لدينا وحدة وطنية تجعل الشيخ والقسيس يتفقان على تأييد الرئيس لكن ذلك لا يجعلهما يفرطان في دينهما بحيث يطبقان في زمارة رقبة بعضهما مع أول شائعة عن تنصير فتاة مراهقة أو إسلام فتى عاشق. لدينا أكبر عدد من الكباري التي تتيح لنا حكومتنا فرصة يومية للوقوف عليها بالساعات لكي نتعارف على بعضنا أكثر ونقوي أواصر "اللُّحمة" تعويضاً لنا عن غلاء أسعارها لدى الجزارين.

لدينا أضخم محطات صرف صحي في الشرق الأوسط تمكننا من ألا نشيل جوانا شيئا كما كنا نفعل قبل ذلك. لدينا أضخم مبنى تلفزيون في العالم به أضخم مذيعات في العالم وأكثر البرامج عمقا ونضجا ووعيا وجذبا للمشاهدين. لدينا أضيق وأطول عنق زجاجة في تاريخ البشرية وأحرج لحظة سياسية و"أخلد" مسيرة تنمية وأعرض ملحمة بناء. لدينا أكبر عدد من الآثار التي تركها لنا الأجداد ربنا يخفف عليهم سؤال الملكين نعرف كل شيء عنها ونتعلم في مدارسنا كيف نحبها ونصونها ونحافظ عليها. لدينا مراكز للإشعاع الثقافي بناها لنا أقدم وزير ثقافة في العالم تكاد تحترق من فرط التنوير الذي يشع في جنباتها. لدينا مستشفيات تتمنى أن تموت فيها من كثرة ما تلقاه فيها من عناية ورعاية.

لدينا أقوى مدارس وجامعات في العالم لا يستطيع حتى أينشتاين أن يقضي فيها يوما واحدا لو كان طالبا فيها. لدينا أقوى قاعدة علمية شعر الدكتور أحمد زويل بجلالة قدره بالتضاؤل عندما وقف إلى جوارها. لدينا أكبر عدد من الأغاني الوطنية التي تصور كفاحنا وتتغنى بإنجازاتنا وتسجل حبنا لقائد مسيرتنا التي لا يبدو أنها ستنتهي أبدا. لذلك ولذلك كله علينا أن نقول بصوت عال: تُبنا إلى الحزب، ورجعنا إلى الحزب، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا على ألا نعود أبدا. "بس ناخد الفيزا الأول يا رب".

(صفحة من مذكرات شاب مصري كتبها أثناء تسلية نفسه في طابور الانتظار أمام واحدة من السفارات الأجنبية التي أدمن التردد عليها بناء على نصيحة طبيبه النفسي الذي يعالجه من إدمانه على محاولة الانتحار). 

...

نشرت نسخة من هذه السطور بتاريخ 1 يناير 2011، وحين استبدلت كلمة (الحزب) بكلمة (الرئيس) وجدتها صالحة للنشر كأنها كتبت اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.