بين عقلية المفكر والمخطط الاستراتيجي
من الصفات التي يتصف ويتميز بها الإنسان التفكير، ويطلق على الشخص لقب مفكر إذا توافرت فيه العديد من الصفات التي تجعله ينتقل من درجة مثقف إلى درجة مفكر، ما يعني أن المفكر لا يكون مفكراً إلا بعد تجاوزه مرحلة المثقف، ولذلك قالوا إن كل مفكر هو مثقف بالضرورة، وليس كل مثقف مفكراً بالضرورة.
ويصنع المفكر في مناخ وبيئة تساعده على تنمية مهاراته العقلية والفكرية، أو قد يولد الشخص ذا مهارات عالية تساعده على نمو تفكيره حتى يصبح مفكرا، أو يمتلك شخص بعض المهارات التي تنمى بالدراسة والقراءة والبحث والتنقيب. والمفكر دائما يُعمل عقله في إيجاد حلول للمشكلات مبتدئاً بدراسة المشكلة ويستدعي حلولا لها من الذاكرة ثم يأتي بحلول جديدة ومبتكرة نتيجة تداخل استخدام الكثير من المعطيات ليحقق المطلوب.
قد نستغرب كيف يحصل المفكر على أفكار إبداعية مبتكرة، ويكون هذا نتيجة القراءة الكثيرة في العلوم المختلفة فيستطيع أن يوظف كل ما قرأه، حتى إن لم يكن حاضراً في ذهنه، ليجد الحل العميق للمشكلة. والمفكر دائما وأبداً مهموم بأفكاره فيستدعي ذلك عمل عقله الباطني أثناء الراحة والنوم ويستدعي الكثير من المعلومات المخزنة بداخل عقله، ومن خلال امتلاكه واكتسابه العديد من المهارات التي تؤهله أن يستخرج المكنونات الموجودة في عقله، وجعلها حاضرة لديه ليَخرج بأفكار مبدَعة يفوق بها الإنسان العادي.
المفكر يصنع في أغلب الأحيان نتيجة البيئة المحاط بها، أو نتيجة الظروف والعوامل التي يمر بها، فتجعل منه مفكراً يستطيع أن يبتكر العديد من الحلول للمشكلات. ومع تزايد مجالات الحياة واتساعها، أصبحنا نحتاج إلى مفكر في كل مجال، حتى يستطيع أن ينتج ويبرع في مجاله. كما نحتاج في هذه المرحلة إلى العديد من المفكرين ليتكاملوا في ما بينهم، ليخرجوا أمتنا من الكبوة والعثرة التي توجد فيها منذ ما يزيد عن المائة سنة، لذلك نحن في أشد الحاجة إلى مفكرين في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وعلم النفس، والتخطيط، وعلوم الطبيعة والتكنولوجيا، حتى نستطيع أن نملأ الفراغ الذي توجد فيه أمتنا منذ زمن بعيد.
بدون الشخص المفكر الذي يحمل العديد من الأفكار والنظريات ذات المعرفة الواسعة والذي يمتلك خبرة فنية وثقافية، ومهارات التفكير، لن يكون للتخطيط دور
إذا أردنا أن نقارن بين عقلية المفكر وعقلية المخطط في مجال السياسة، فسنجد أن المفكر هو الذي يبتكر الكليات ويحدد المصالح العليا التي تريدها الدولة لتحقق أهدافها نحو التقدم والنهضة، أما المخطط فهو الشخص الذي يأخذ هذه الكليات والمصالح العليا ويحولها إلى أهداف استراتيجية ومنها إلى تكتيكية وتنفيذية ثم تشغيلية في النهاية.
إن وظيفة المخطط الاستراتيجي ليست بالهينة والسهلة، لأنه هو الذي يرسم المسارات والخطوات والمراحل العلمية التي نتخذها للسير في طريق الصعود بالمشروع داخل الدولة، ومحاولة التحكم بالأحداث التي تضمن لنا سلامة الوصول، لذلك نحتاج إلى عقول ماهرة ومتمرسة في كيفية اختيار أفضل الطرق إلى تحقيق الأهداف. كما تتمتع عقلية المخطط الاستراتيجي بمستوى عال من الذكاء وسرعة البديهة، وعنده إحساس وتوقع عال للبيئة الخارجية، وكيفية اقتناص الفرص لتستفيد منها الدولة في معركتها القادمة.
بالإضافة إلى ذلك يتطلب امتلاكه العديد من المهارات، مثل التحليل والتفسير بين المتغيرات الخارجية، ومهارة المفاضلة بين البدائل الاستراتيجية، كما أنه يتميز بالدقة والبصيرة في عملية تقييم الأوضاع المستقبلية، كما لا بد للمخطط أن يكون ملماً بالنظريات الموجودة في التخطيط الاستراتيجي ليس اطلاعا فقط، بل واستخداماً لها حتى يستطيع أن يختار أفضل النظريات التي توصله إلى تحقيق الأهداف بأقل كلفة بشرية ومادية، وتحقيق الأهداف بكفاءة عالية.
المفكر موهوب لديه مهارات خاصة، ويمتلك الذكاء الذي يجعل منه بطلا صنعته الظروف، أو نتيجة للوسط والمستوى الفكري للبيئة المحيطة به فيجعله يطور من آليات التفكير لديه لتكون أكثر دقة وفائدة.
بدون الشخص المفكر الذي يحمل العديد من الأفكار والنظريات ذات المعرفة الواسعة والذي يمتلك خبرة فنية وثقافية، ومهارات التفكير، لن يكون للتخطيط دور، فوظيفة المخطط هي تالية لوظيفة المفكر الذي يصنع المستحيل ليجعل من المتداخلات والمتشابكات والمتشابهات في القضايا الكلية مفصلة للمخطط الاستراتيجي الذي بدوره يحولها إلى طرق ومسارات تجعل من الدولة دولة متقدمة متفوقة على أقرانها.
بقدر حاجتنا إلى مؤسسات أو وزارات للتخطيط الاستراتيجي فنحن بحاجة إلى مؤسسات وأوعية تصنع مفكرين يستطيعون أن يرسموا المستقبل ويتخيلوه ويضعوا الكليات والمصالح الكبرى للدولة أو لكيان أو لحزب، حتى يستطيعوا في النهاية أن يصلوا إلى ما يصبون إليه ويحققوا التقدم والرقي والنهضة.