بين حبِّ البقاء وحضور الموت

15 يونيو 2024
+ الخط -

نحن هنا في هذا المقال، بصددِ محاولة الخوض في وجهين لعملةٍ واحدة، ألا وهي الحياة، نحاول من خلالها الغور في جوف وجهين متلازمين، متناقضين، متنافرين، يحدّد أحدهما الآخر، ويتميّز كلّ وجهٍ بهيبته وثقله وسطوته ووضوحه.

يحيلُ الوجه الأول إلى حبّ البقاء، حيث تتمثّل غريزة التمّسك بالحياة بمعيةِ الطموح في البقاءِ لأطول فترةٍ ممكنةٍ من الزمن وفق معايير معينة، وينبعث من حبّ الخلود الذي يسكن النفس البشرية ولا يحرّكه إلا الشعور بالخطر أو الموت في لحظةٍ موعودةٍ ومجهولةٍ وغير مرحبٍ بها على الإطلاق. بينما يحيل الوجه الثاني إلى الموت، وما يكتنفه من خبايا تتمثّل في حقيقةِ الزوال ومغادرةِ الروح للجسد، وانبعاثِ أسئلةٍ مفصليةٍ حول ماهية حياة ما بعد الممات.

فيما يعبّر حبّ البقاء عن حاجةٍ غريزية غير قابلة للإشباع، تتجدّد وتنشط وتتحرّك باستمرار رغم الفتور الذي قد يصيبها من وقتٍ لآخر باعتبار ما تعيشه الذات من تقلباتٍ، وتكابده من اضطراباتٍ نفسية وذهنية وعاطفية وأزماتٍ مادية. من الغريب أنّه رغم حدوث إمكانية التداعي بالإقبال على الموتِ في وقتٍ معين، هناك حب دفين في البقاء يستوطن دواخل الذات وينفجر فجأة، وبقوةٍ، عند آخر رمق، رافضًا الاستسلام أو الخضوع، ومعبّرًا عن شخصيته القوية والرهيبة.

نميل إلى القول إنّه في حبِّ البقاء أمل وإيجابية وتفاؤل ودعوة إلى الإعمار والبناء والتمسّك بنعمةِ الحضور والاستمرار والظفر بمزيدٍ من الوقت والنهوض بالمهام التي خُلِق من أجلها الإنسان.

هناك حب دفين في البقاء على قيد الحياة، يستوطن دواخل الذات وينفجر فجأة، وبقوةٍ، عند آخر رمق 

وأما فيما يتعلّق بالموت، فلا نتردّد أبدًا في وصفِ الموت بالحقيقة التي لا يُراود حضورها شك أو ريب، إذ لا مفر من ظهورها المادي، ولا يجرؤ أحد على تفنيد وجودها ما دامت تُصيب الأقارب والأصدقاء وجميع المعارف. تبدو (حقيقة الموت) وكأنّها اليقين القادم والمسلمّ له، والمطلوب تأجيله، والمستبعد ودّه، ما دامت تضع حدًا للحياة وتُحيل على الفناء والهلاك، وعلى المجهول من العوالم والغيبياتِ غير الحسيّة، والتي استأثرت النصوص الدينية لوحدها بهمّة إرسالِ إشاراتٍ عنها والحديث عن بعض تفاصيلها.

هناك من يطلبُ الموتَ شهادةً، ومن أجل قضيّة إنسانية صرفة، يضحي من خلالها بحياته ليحيا الآخرون حياةً أفضل، مدافعًا عن شموخِ القيم الإنسانية، ومعبّرًا عن أثمن أنواع العطاء والإيثار، مبتغيًا نيل رضا الخالق ونفحات كرمه اللامحدود، ورضا الذات وانسجامها مع قناعاتها. يظلّ أشاوس القضية الفلسطينية أعظم تجسيد لهذا العطاء العطر.

 على النقيض من ذلك، ثمّة من يُقبل على الموت هروبًا من الحياة، مستسلمًا لليأس والتشاؤم وجبن النفس، وافتقاد شجاعة المواجهة، مبتغيًا الخلاص من وضعٍ لا يطيقه ولا يرضاه، ساعيًا الانتقال إلى عالمٍ آخر أقلّ قسوة وأكثر رحمة، ومُعرضًا عن الممانعة والمقاومة. نتوقف عند هذا المقام ونطرح السؤال التالي: هل تتلاشى قوة حبّ الحياة نهائيًا عند هذا المستوى من الإحباط واليأس أم إنّ صاحبها يستميتُ في الإعراض عنها وعدم الاستجابة لندائها بالتجاهل والإنكار؟

ثمّة من يُقبل على الموت هروبًا من الحياة، مستسلمًا لليأس والتشاؤم

كما تتم الاستجابة لغريزةِ حبِّ البقاء بالبحث الدائم عن ماهيةِ الحياة وتطوير القدرة على الحياة من خلال البحث عن تحقيق التوازن بين الروحي والمادي، والجهاد المستمر والمُستدام من أجل تطوير الذات. نحيل هنا إلى فلسفة ديكارت التي تدعو إلى خلخلة المفاهيم والإقدام على مساءلةِ ومراجعة التصوّرات والأفكار الجاهزة وطرحها للنقد والتمحيص وهدمِ اليقينيات والمسلّمات.

في كنفِ مقاربة الاستجابة لنزعةِ حبِّ البقاء مع الوعي العقلاني بالحضور الدائم للموتِ، تنهضُ الذات بالمسؤوليات الفردية والجماعية، وتسعى باستماتةٍ إلى اكتسابِ فن العيش من أجل تحقيق حياةٍ كريمةٍ زاخرةٍ بالعطاء، مستمرة في التطوّر والنمو والارتقاء، مستجيبةً للقناعات والتصوّرات الذاتية، الدائمة الهدم والبناء، والمؤسّسة لفضائل القيم والأخلاق. يعينها هذا السعي الحثيث على لجمِ الأنانية والفردانية ونشاط الغرائز الحيوانية ويعبّد الطريق نحو سمو الروح أمام المادة والبحث المستمر عن العمق وتدبير فعال للوقت والجهد والموارد وتجنّب التأجيل والتسويف وعيشِ اللحظة بتفاصيلها.

تقدّم كل من ألمانيا واليابان مثالًا عميقًا في حبِّ البقاء وتطوير القدرة على الحياة والتعامل الإيجابي مع الموت، إذ رغم تدمير البلدين عقب الحرب العالمية الثانية وهلاك الملايين من المواطنين، تمكّن الشعبان من إعادةِ بناء البنية التحتية والتشييد لاقتصاد قوي والتموقع في الريادة العالمية بفضلِ الإرادة والعزيمة والفكر وهدم الهدم وشيوع ثقافة القيم النشطة البناءة.

عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
عزيز أشيبان