بركات فيليب روث تحلّ على آل باتشينو (1/3)

16 اغسطس 2021
+ الخط -

حين يتجاوز ممثل موهوب السبعين من عمره وهو الذي مارس التمثيل لأكثر من خمسين سنة، قام خلالها بأداء عدد ضخم من الأدوار المتنوعة، وحصل على كم كبير من الجوائز والنجاح، ثم أصبح متهماً بأنه فقد توهجه وأصبح يكرر نفسه في العقد الأخير، فما الذي يمكن أن يتمناه للرد على هذه التهمة أكثر من الحصول على دور يلعب فيه شخصية ممثل موهوب أصبح فجأة مهدداً بفقدان موهبته وضياع قدرته على التمثيل؟

هذه بالضبط الفرصة التي حصل عليها الممثل الأميركي آل باتشينو في مرحلة حرجة من مشواره المهني، حين قام ببطولة فيلم بعنوان The Humbling من إخراج المخرج الشهير باري ليفينسون الحاصل على الأوسكار، وعن رواية للكاتب الأميركي الشهير فيليب روث الذي ظل حتى وفاته مرشحاً "إعلامياً" دائماً لجائزة نوبل لكنه لم يحصل عليها. كنت قد حضرت أول عرض لهذا الفيلم في عام 2014 في ختام فعاليات مهرجان مجلة (ذي نيويوركر) المرموقة، بحضور مخرجه باري ليفينسون الذي كان رحب الصدر في استقباله لأسئلة ناقد المجلة البارز ديفيد دينبي وجمهور الندوة، بل وسمح لنا أن نتحلق حوله بعد انتهاء الندوة ليجيب عن المزيد من الأسئلة عن فيلمه الجميل وعن مشواره الفني الحافل وعن أعماله الفنية المستقبلية أيضاً.

صدرت رواية فيليب روث عام 2009، وهي الرواية التي حملت رقم 30 في قائمة رواياته إضافة إلى كونها الرواية قبل الأخيرة، حيث أصدر بعدها في 2010 رواية أخيرة وأعلن بعدها اعتزاله الكتابة الروائية لتوافيه المنية في 22 مايو/أيار 2018 بعد حالة صمت طويلة، ولذلك لا يمكن أن تفصل فكرة الرواية عن تأمل فيليب روث نفسه لعلاقته كمبدع بتقدم العمر وما يطرحه من أسئلة حول فقدان الموهبة وخسارة المهارة، وهي الأسئلة نفسها التي يمكن أن تتصور أنها شغلت المخرج باري ليفينسون نفسه الذي بلغ وقت إنجاز الفيلم 72 عاما، والذي عانى هو أيضاً من فترة اضطراب فني في العقد الأخير، بعد أن أخرج على مدى ثلاثين عاما عددا من الأعمال الفنية المتميزة مثل "داينر ـ رين مان ـ سليبرز ـ ووج ذي دوج ـ أفالون ـ باجزي ـ جود مورنينغ فيتنام ـ تويز ـ مان أوف ذي يير"، وهي أفلام قام بكتابة أغلبها أيضا بالإضافة إلى أفلام رائعة أخرى شارك في كتابتها مثل "توتسي ـ آند جاستيس فور أول ـ هاي أنغزايتي"، وقائمة متنوعة من الأفلام والأعمال التلفزيونية قدمها أيضا كمنتج من أشهرها فيلم "دوني براسكو"، لكنه لم يستعد تألقه الفني والجماهيري مؤخرا إلا مع آل باتشينو نفسه في فيلم تلفزيوني من إنتاج قناة إتش بي أو قدما فيه حياة الطبيب جاك كيوركيان أحد أشهر المدافعين عن حق المصابين بحالات صحية حرجة في الانتحار.

بحكم خبرته الطويلة ككاتب تعود باري ليفينسون على أن يشارك في كتابة سيناريو أفلامه، حتى تلك التي لم يكتبها بنفسه، لكنه في هذا الفيلم استعان بكاتبين من جيلين مختلفين، أولهما الثمانيني المخضرم باك هنري الذي كتب أفلاما شهيرة مثل (ذي غراديوتيد ـ تو داي فور ـ غيت سمارت) وربما كان ما يميزه أيضاً أنه ممثل مخضرم لذلك حسبما أتصور كان وجوده في هذا الفيلم بالذات مهماً لتقديم شخصية الممثل ذي الخبرة الطويلة، أما الكاتبة الثانية فقد كانت ميشال زبيديه وهي كاتبة أميركية من أصول لاتينية ولم تقدم أعمالاً من قبل سوى مشاركتها في كتابة مسلسل نسائي جماهيري عن خادمات منحرفات يجمع بينهن أنهن من أصول لاتينية، ويبدو أن اختيارها كان مهماً للمشاركة في إغناء شخصية مدرسة التمثيل الشابة التي تدخل حياة الممثل العجوز فتقلبها رأساً على عقب.

لم تكن تلك محاولة الانتحار الأولى لبطلنا، فقد أعقبتها محاولة انتحار ثانية ببندقية صيد على طريقة الأديب الأميركي الشهير آرنست هيمنغواي

يبدأ الفيلم بمشهد يجلس فيه الممثل سيمون أكسلر (آل باتشينو) أمام المرآة في حجرته بالمسرح، منتظراً إشارة الدخول إلى خشبة المسرح لأداء دوره، وهو يلقي على نفسه مونولوغاً طويلاً يمزج بين عبارات مسرحية شهيرة وبين كلمات غير مفهومة وعن علاقته بالتمثيل والمسرح وخشيته من أن يكون قد فقد قدرته على التمثيل، قبل أن يمسك بقناعي الكوميديا والتراجيديا الشهيرين ليقبلهما ويضعهما على خديه كأنه يستمد منهما البركة والطاقة، ثم نراه بعد أن شعر أنه تأخر على دوره ينزل إلى خشبة المسرح فيتوه في أروقته، وعندما يفتح بابا خاطئا يجد نفسه خارج المسرح الذي أغلقت أبوابه بسبب بدء العرض، وحين يحاول الدخول يمنعه أفراد أمن المسرح في مفارقة ساخرة تشير إلى عدم وجود أي علاقة لهم بالفن الذي يقفون حراسا لمعبده، ثم نكتشف بعد ذلك أن ما رأيناه لم يكن إلا خيالاً يراوده، ونراه يصعد على المسرح في موعده ليكتشف أنه نسي دوره وبدأ الجمهور يتساءل عما جرى له، ثم نفاجأ به يرمي نفسه على أرضية المسرح في أول محاولة انتحار له، وعندما يفيق في المستشفى يكون أول سؤال للممرضة التي ترافقه في طريقه إلى العلاج ما إذا كانت قد شاهدت أداءه وما إذا كان قد أعجب الجمهور أم لا.

لم تكن تلك محاولة الانتحار الوحيدة لبطلنا، فقد أعقبتها محاولة انتحار ثانية ببندقية صيد على طريقة الأديب الأميركي الشهير آرنست هيمنغواي الذي نسف رأسه ببندقية صيد، وهو ما يسخر منه بطل الفيلم حين يقول إنه عندما فشل في تقليده اكتشف أن هيمنفواي كانت أصابعه طويلة ولا بد لكي ينجح في تلك الطريقة المؤلمة للانتحار، ولا يفوت الفرصة للسخرية من فكرة تعامل الأميركان مع همنغواي بعد كل تلك السنين على انتحاره، حيث تحول إلى أيقونة تجارية يطلق اسمه على المنتجات والمحلات، ليصبح اسم الرجل الذي نسف رأسه لأنه لم يحتمل الحياة اسماً لغرفة نوم تحصل على حسم كبير إن اشتريتها. 

يدخل سيمون إلى مركز للعلاج النفسي ويتابع الفيلم بشكل ممتع جدا رحلة علاجه في المركز وبعد خروجه منه أيضا عبر جلسات على كاميرا السكايب مع طبيبه المعالج، وبصحبة كل ذلك نرى كيف أصبحت تختلط الحقيقة لديه بالوهم، فيرى أشياء تبدو منطقية جداً ولها علاقة بما جرى في حياته، لكنه يكتشف في النهاية أنها كانت خيالات، وهنا تظهر في حياته شابة تعمل مدرسة للتمثيل والفنون في جامعة قريبة نوعا ما من منزله الريفي الذي يقيم به ـ تم اختيار منطقة ريفية بديعة في ولاية كونيتكيت للتصوير ـ ونكتشف أنها ابنة ممثلة مسرحية كبيرة كانت زميلة له قديما وكانت بينهما علاقة قوية يلمح الفيلم إلى كونها علاقة عاطفية، وأن هذه الشابة عندما كانت صغيرة كانت تعتبره فتى أحلامها، لدرجة أنه عندما أعطاها مرة على سبيل المداعبة خاتم زواج ظلت لسنين تتوقع أن يفي بوعده لها بالزواج، ومن خلال علاقته بهذه الشابة يشعر سيمون بأنه منفصل تماما عن العالم الذي يعاصره، فهو يرى كيف تتأرجح هذه الشابة في علاقاتها العاطفية، فحبيبتها السابقة قامت بعملية تحويل جنسي وأصبحت رجلا واستمرت في مطاردتها، وحبيبتها الحالية أكبر منها سناً وتهاجم سيمون برسائل هاتفية وباقتحام حرم منزله لأنها تشعر بالغيظ منه لأنه خطف حبيبتها، كل هذا يقدمه باري ليفينسون دون تقديم أي مشاهد جريئة، وأحياناً على طريقة "السينما النظيفة"، ليس رغبة منه في التحفظ، بقدر إدراكه أن هدفه الأهم هو مواصلة الإجابة عن سؤال الفيلم الرئيسي عن العلاقة المركبة بين الإنسان والعمر، وما الذي يأخذه كل منهما من الآخر وما الذي يعطيه للآخر.

ربما كان أجمل ما قرأته عن أداء آل باتشينو في هذا الفيلم بعد أن تم عرضه في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي هو ما كتبه سكوت فاونداس كبير نقاد مجلة فارايتي الشهيرة حين وصفه بأنه مواصلة لاستفاقة آل باتشينو من الغيبوبة التمثيلية التي ظل فيها سنين طويلة والتي بدأ استفاقته منها مع باري ليفينسون في فيلمهما التلفزيوني الذي سبقت الإشارة إليه. لكن أداء آل باتشينو لم يكن ممكنا أن يكون بهذه الروعة لو لم يكن قد دخل خلال الفيلم في منافسة رائعة مع الممثلة غريتا غيرويغ ـ 31 سنة ـ والتي سبق أن لمعت في فيلم مستقل جميل اسمه (فرانسيس ها) كانت هي بطلته وكاتبته أيضا، كما سبق لها أن شاركت في إخراج فيلم مستقل اسمه (ليال وأسابيع)، بالإضافة إلى حضور مميز لممثلين مخضرمين مثل كيرا سيدغويك ودايان ويست ودان هدايا، وإبداع من الممثلة نينا آرياندا في دور مريضة عقلية يلتقيها الممثل في مركز العلاج ويفاجأ بها تطلب منه أن يقتل زوجها الذي اعتدى على ابنتها جنسيا، لأنها شاهدته في فيلم يلعب دور القاتل وأقنعها بشدة، ويظن هو أنها مدفوعة عليه من الأطباء للتأكد من قواه العقلية، ثم يكتشف أنها تتحدث بجدية لدرجة أنها تزوره في منزله حاملة مبلغاً مالياً كمقدم للأتعاب، لكنه يشك في أن يكون لقاؤه بها هلوسة، قبل أن يرى صورتها في الصحيفة مصحوبة بخبر عن قتلها لزوجها.

...
نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.