بداية مسار جديد للسوريين
مع سقوط نظام بشّار الأسد، يطوي السوريون والعالم صفحةً طويلةً من الألم والدمار، لكنها تفتح في الوقت نفسه أبواباً جديدة من التحديات والأسئلة الكبرى حول مستقبل سورية، حيث يجد السوريون أنفسهم أمام مشهد معقد تتداخل فيه أبعاد داخلية وإقليمية ودولية بشكلٍ عميق. والنظام السوري الذي حكم بقبضةٍ من حديد لعقود طويلة لم يسقط فجأة؛ بل كان هناك مقدّمات لهذا السقوط. فالثورة الشعبية التي اندلعت عام 2011 وحملت شعارات الحرية والكرامة، تحوّلت إلى صراعٍ مسلّح طويل نتيجة القمع الوحشي الذي واجهت به السلطة حراك الشعب. وهذا الصراع استنزف البلاد، وأدى إلى تشظيها جغرافياً وديمغرافياً، مع خسائر بشرية فادحة واقتصاد مدمّر. وكلّ ذلك جعل سقوط النظام يبدو مسألة وقت، وليس احتمالاً بعيداً.
وما يجعل هذا الحدث استثنائياً هو التوقيت والتفاصيل. فالنظام السوري لم يكن وحده في معركته؛ فقد اعتمد طوال السنوات الماضية على دعم خارجي مكثّف من حلفائه، لا سيما روسيا وإيران. والتدخل العسكري الروسي منذ عام 2015 قلب الموازين على الأرض، وسمح للنظام باستعادة السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، بينما دعمت إيران النظام عسكريًا، إضافة الى شبكاتها الاقتصادية. لكن هذا الدعم جاء بثمن باهظ؛ إذ أصبح النظام يعتمد كلياً على حلفائه وفقد استقلاليّة قراره السياسي والاقتصادي.
اليوم، ومع التغيّرات الإقليمية والدولية، بدا أنّ الحلفاء أنفسهم بدأوا يتخلون عن الأسد. روسيا غارقة في صراعها بأوكرانيا وتعاني من ضغوط دولية هائلة، بينما تواجه إيران أزمات داخلية خانقة وعزلة متزايدة، ممّا جعل دعم الأسد أقلّ أولوية. هذا الانسحاب التدريجي للحلفاء، إلى جانب الانهيار الاقتصادي الكارثي في سورية، عجّل بسقوط النظام، الذي أصبح عاجزاً عن تأمين أبسط مقوّمات الحياة لمواطنيه.
ما يحدث في سورية اليوم سيترك بصماته على الشرق الأوسط لسنوات طويلة
بالنسبة للبنان، فإنّ سقوط النظام في دمشق يحمل تداعيات كبيرة قد تكون إيجابية وسلبية في آن واحد. والعلاقات بين النظام السوري وأطراف لبنانية متعدّدة كانت دائماً معقدة. فالبعض في لبنان كان يرى في الأسد حليفاً استراتيجياً، بينما كان آخرون يعتبرونه قوّة وصايةٍ قوّضت سيادة البلاد لعقود. مع سقوط النظام، قد يكون لبنان أمام فرصة لإعادة صياغة علاقته مع سورية بشكل أكثر استقلالية وندية، بعيداً عن تدخلات الماضي. لكن في المقابل، هناك مخاوف حقيقية من تداعيات الفوضى التي قد تنجم عن انهيار النظام السوري، لا سيما على صعيد اللاجئين والوضع الأمني والاقتصادي.
على المستوى الإقليمي، سقوط الأسد يعيد رسم خريطة التوازنات في الشرق الأوسط. النظام كان حجر الزاوية في محور تقوده إيران، يمتدّ من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق. اليوم، هذا المحور قد يتعرّض لهزّة كبيرة، ممّا قد يفتح المجال أمام قوى إقليمية أخرى، مثل تركيا ودول الخليج، لتعزيز نفوذها في سورية. كذلك، الولايات المتحدة وأوروبا قد تريان في هذه اللحظة فرصة لإعادة ترتيب الملفات السورية بما يتماشى مع مصالحهما.
يجب أن تكون الأولوية لإعادة اللحمة الوطنية وتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية التي عمّقها النظام على مدار سنوات حكمه
أما بالنسبة للشعب السوري، فإنّ سقوط الأسد يمثّل لحظةَ أملٍ وفرصة لطي صفحة من القمع والمعاناة. لكن هذا الأمل يظلّ مشوباً بالخوف من المجهول. فالفراغ السياسي الذي تركه النظام قد يتحوّل إلى فرصة لبناء نظام جديد يقوم على الحرية والديمقراطية، لكنه قد يؤدي أيضاً إلى فوضى عارمة إذا لم يتم التعامل معه بحكمة. والمعارضة السورية، التي عانت لسنوات من الانقسامات وضعف التنسيق، تواجه الآن تحدياً هائلاً يتمثّل في توحيد صفوفها وطرح رؤية واضحة لمستقبل البلاد.
التحدّي الأكبر اليوم هو كيفيّة إعادة بناء سورية من تحت الركام. وهذه المهمة تتطلّب تعاوناً دولياً مكثفاً، لكن أيضاً إرادة داخلية قوية لدى السوريين أنفسهم. يجب أن تكون الأولوية لإعادة اللحمة الوطنية وتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية التي عمّقها النظام على مدار سنوات حكمه. كذلك، يجب أن يكون هناك التزام دولي بتقديم الدعم الإنساني والإغاثي للسوريين، بعيداً عن أيّ أجندات سياسيّة ضيقة.
سقوط الأسد ليس مجرّد نهاية نظام، بل بداية فصل جديد مليء بالآمال والمخاطر. وهذه اللحظة تتطلّب قراءةً دقيقةً ومتأنيّةً، ليس فقط للمشهد السوري، بل للمنطقة بأكملها. فما يحدث في سورية اليوم سيترك بصماته على الشرق الأوسط لسنوات طويلة. والتحدي الآن هو أن تكون هذه البصمات إيجابية، وأن تحمل هذه اللحظة فرصة حقيقية لبناء مستقبل أفضل للشعب السوري، بعيداً عن القمع والاستبداد الذي ميّز سنوات حكم الأسد ووالده حافظ الأسد.