بالصمت والصورة

21 أكتوبر 2023
+ الخط -

انطلقت صفارات الإنذار، وحان الوقت لمغادرة الدار. هل من تعويذة تغيّر الأقدار؟ هل الانسلاخ عن الأرض في زمن الحرب أحسن خيار؟

متاهات وتساؤلات لا يفقه مرّها إلا من خبُر شرّها. ففي خضم الحروب الطاحنة، وحملات التنكيل والتهجير والتهويل، تنشط آلة تسجيل الأحداث والروايات العابرة فوق الركام، والماضية قدماً نحو كلّ خبر يفضح المعتدي الرذيل، ويحصي فرائس الموت الماكر. إنّ لكلّ صحافيي الأرض نصيب مما يجري في الساحات، وفي الأنفاق، وفوق الغيم، وبين لطمات البحر. فبقلمٍ ورصاص، عين الصحافي تشهد بالحق، وعين العدو تبطل ذاك السحر الذي يمكن أن يكشف حقائق وقرائن تدين أفعاله، وتمسخ حجته بالتخريب والترهيب. 

في كلّ جولةٍ من الدك والإجرام، يخوضها العدو مهما كانت خلفيته الأيديولوجية، يحاول الأخير التصويب على ما يصنّف "تابو" الحروب والمعارك العسكرية الذي يُحرّم التعرّض له، أو المساس به، والمقصود هنا المسعفون والصحافيون.

 يشعر العدو أنّه بقتله واستهدافه هذا الفيلق المقاوم أيضا يستفز الجهة المناوئة له، ويضغط عليها للجم تقدّمها عسكرياً وإثارة مناصريها ضدها. فإن كان لهذا الفكر جدوى أو احتمالية تطبيق فعّال، فبالتأكيد ليس مع العرب. نحن شعوب تواجه ماكينة الحرب بالحجر والنار، غير آبهين بما "يمرّكهُ" عدّاد الموت من شهداء وجرحى. كما أنّ أسرانا في السجون سفراء لعقيدتنا التي تغيظ العدو، وتدفعه لاستخدام شتى ضروب التعذيب، لكن يقيننا بالنصر يغلب شياطين خوفهم. 

في كلّ مجال، ترى للصحافة دوراً فاعلاً ينقل التفاصيل، ويغوص في التحليل كي يكون المتلقي على بيّنة من كلّ ما يجري في حيّزه الجغرافي، وأبعد من ذلك أيضا

قافلة الشهداء والجرحى من الصحافيين تزيّنت بآخر ركابها، الشهيد عصام عبد الله من لبنان، والزملاء في غزة وكامل الأراضي الفلسطينية الحرّة. هم رجال ونساء اعتصموا بحبل العزم ومضوا يلتقطون الصور ويبثون الحقيقة كما هي أمام الرأي العام المناصر والمعادي للقضية العربية الولاّدة للأبطال. وذلك إن دلّ على شيء، فهو يدل على أنّ العناصر الصحافية ستبقى قنّاصاً يشعرهم بالقلق ويعرقل مهامهم التلفيقية والتضليلية. ولهذا المأرب، سيبقى العدو يستهدف مواكب الإعلاميين كي لا تعلو أصوات حناجرهم فوق هدير طائراتهم، ولا ينافس فلاش الكاميرا وميض قنابلهم.

لطالما كانت مهنة الصحافة يُسبغ عليها وصف مهنة المتاعب والضغوط المتعاقبة، وهي أيضاً مهنة سامية لا موسم محدّداً لها. ففي كلّ مجال، ترى للصحافة دوراً فاعلاً ينقل التفاصيل، ويغوص في التحليل كي يكون المتلقي على بيّنة من كلّ ما يجري في حيّزه الجغرافي، وأبعد من ذلك أيضا. لكن لنقلِ الحقيقة، إنّه ثمن يدفعه جنود هذه المهنة في الاقتتالات والمنازلات العسكرية والأمنية. فلا يخلو أيّ حدث من شظية تصيب الجسم الإعلامي، وتجعله عرضة للاستهداف الجائر والمشين. تماماً كما حدث ويحدث، حالياً، على خطوط النار، وفي الصفوف الأمامية لمسرح الصراع العربي الإسرائيلي.

كم مؤذٍ أن تشاهد ناقل الحقيقة وكأنّه لقطة مثبّتة تنتظر حدثاً يحرّكها. ترى الصحافي من دون أن تسمع تعليقه. وبالصمت والصورة، تراقب الحدث وكأنّه نهاية مفتوحة لفيلم يرتأي مخرجه أن يتخيّل المشاهد/ الأحداث الختامية كما يشاء. فنحن نرى نهاية شهدائنا فاتحة للإصرار والثأر، وهم يرونها مجرّد خاتمة لخطر يحدق بهم. لكنّنا سنظل نؤكد للأعداء أنّ إجرامهم المظلم في الأرض يحيلُ شهداءنا أجراماً مضيئة في السماء.

A316885A-7868-45DD-8FB2-2B2874BA058F
A316885A-7868-45DD-8FB2-2B2874BA058F
محمد رشاد الحلبي
كاتب من لبنان.
محمد رشاد الحلبي

مدونات أخرى