الهيرمونطيقا والنص القرآني (3)
رأينا كيف أن مناهج التأويل، أو فن الفهم، كما سماها شلايرماخ كان الهدف منها هو تقديم فهم للنص الديني، وخاصة في عصر العلم بعدما بدأت تظهر قضايا قد تبدو متناقضة مع العلم. وللإشارة فقضية التأويل المجازي للنص الديني ظهرت مبكرة في الفكر المسيحي، هناك من يرجعها إلى عصور متقدمة جداً، خاصة مع بداية تأويل بعض القضايا في الديانة اليهودية أساساً، وذلك في محاولة لأن تجد المسيحية شرعية لها، كونها ديانة منبثقة عن اليهودية، لأن عيسى كان يهودياً.
غير أن هذه الديانة مستقلة عن اليهودية، كما أنه كانت هناك تأويلات للفكر اليوناني أيضاً، وخاصة الجانب الأسطوري منه، ففكرة التأويل ليست جديدة، وما تسمية عبد العزيز حمودة لكتابه "الخروج من التيه" إلا إشارة إلى أن دريدا يستعير في قراءته التأويلية الفكر اليهودي، ولذلك رد عبد العزيز حمودة، بكتابه في محاولة للخروج من التيه.
السؤال: ألم يكن هناك بديل لقراءة التراث، من غير استعارة المناهج، وفي أحيان كثيرة نقلها حرفياً؟ بمعنى آخر ألم يكن في مناهج المفسرين ما يغني عن ذلك الأمر؟ يصعب أن نقدم إجابة جاهزة، لأنه حتى إن كانت هناك مناهج فالأمر يختلف، فحينما حاولت الحضارة الغربية تقديم نفسها على أنها النموذج الختامي للحضارات، فالمسلمون لم يكن ربما عندهم هذا الهاجس، ولذلك فهم حتى مع توسع حكمهم لبلدان كثيرة، كانوا دائماً يحترمون خصوصيات تلك البلدان، ولهذا نجد أن هناك ثقافات وعلوماً تعايشت جنباً إلى جنب مع العلوم الإسلامية، بل كثير من العلوم لو لم تحفظها الحضارة الإسلامية، لما كان لها وجود اليوم، ولهذا ففكرة الاحتكار وإدماج الثقافات في نموذج ثقافي واحد لم تكن واردة ربما داخل الحضارة الإسلامية، بل مبدأ التعدد والتعايش والتقبل كان هو الذي يطبع الذوق العام الإسلامي، وهذا انطلاقاً من القرآن نفسه، الذي جاء رحمة للعالمين.
من هنا جاءت خصوصية المنهج في دراسة القرآن الكريم، فهناك خصوصيات عدة لهذا النص، فقراءته ليست كقراءة باقي النصوص، كما يدعي بعض من يرى بتاريخيّة النص القرآني، إذا تأملنا مناهج العلماء المؤلفين فيما يسمى بعلوم القرآن، وهي العلوم الخادمة للقرآن، مثل التفسير والقراءات، نجد أن هناك خصوصيات لهذا النص، وهذا على خلاف ما يحاول أن يروج له البعض، من أنه دعوة للانغلاق والتزمت، وتقديم قراءات حرفية للنص القرآني، فعلى العكس من ذلك إذا تأملنا مناهج المفسرين، نجد أنها مناهج مرنة، ولا تقدم قراءات حرفية، فتقديم قراءات حرفية للنص الديني كان مجرد نوع، وليس الغالب من أنواع كثيرة من المناهج لقراءة النص القرآني، لكن ما يؤسف له ربما هو أن هذه المناهج لم تجرد من المدونات الكبرى وتولى العناية اللازمة، بل ظلت في هذه الكتب التي معظمها مخطوط، أو مركون في المكتبات، القلة القليلة هي من تستطيع فتح هذه الكتب بل قراءتها.
هناك قواعد معينة لتفسير القرآن، والتفسير كلمة عامة، تعني التأويل أيضاً، وليس فقط التحليل اللغوي، كما أنه دراسة في المعنى أيضاً أو المعاني
هناك قواعد معينة لتفسير القرآن، والتفسير كلمة عامة، تعني التأويل أيضاً، وليس فقط التحليل اللغوي، كما أنه دراسة في المعنى أيضاً أو المعاني، وأيهما يقدم على الآخر، وهذا ما تحاول قواعد الترجيح القيام به، فليس كل قول في تفسير آية معنية يُقبل، بل هناك قواعد لا بد من مراعاتها في التفسير، أو في تأويل القرآن، فهناك على سبيل المثال قواعد متعلقة بقضية النسخ في القرآن، وهذه وحدها فيها مؤلفات، أشهرها كتاب النحاس، الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى، كما أنه إذا وقع نزاع بين النسخ والتخصيص، الخ، من القواعد المقررة في هذا الباب، فقبل التفسير لا بد من مراعاة هذه القواعد.
وهناك أيضاً قواعد متعلقة بالقراءات ورسم المصحف، وهذا ما أشكل على الكثير من المستشرقين منهم جولد زهير، الذي رأى أن في تعدد القراءات دليلاً على أن القرآن محرف، كما يزعم، وما ذلك إلا لعدم فهمه لطبيعة القراءات، إذ القرآن كله بمثابة النص الواحد، لكن للقراءات ميزات عدة، كما أن للقراءات دوراً في توجيه معاني القرآن، وهناك قواعد أيضاً منها أنه إذا ثبتت القراءة فإنه لا يجوز رد معناها، بل تعتبر بمثابة آية مستقلة، والقراءة المتواترة أولى من الشاذة، وغير ذلك من القواعد.