الهيرمونطيقا والنص القرآني (2)
مع بداية القرن العشرين كانت النزعة العلمية هي التي تطبع جميع التخصصات، خاصة أنها كانت قد بدأت تعرف شيئاً من الاستقلال قبل ذلك، لتصبح بذلك علوماً مستقلة بذاتها عن الفلسفة، وفي طريق سعي هذه التخصصات الجديدة لإثبات نفسها، حق لكل باحث التساؤل عن: ما مدى نجاح تلك التخصصات في إثبات علميتها؟ وهل فعلاً باختيار رواد هذه العلوم إخضاعها للمناهج العلمية، كانوا يقدمون خدمة جليلة لها، أم أنهم كانوا يسعون إلى وضع حد لها؟ والدليل أنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يتخلصوا من النزعات الفلسفية القديمة، مثلاً إذا أخذنا اللغة والمذاهب أو التفسيرات التي أعطيت لها، هل استطاع أولئك أن يتجاوزوا الإشكالات الفلسفية، ويقدموا إجابة علمية حاسمة، أم ترى أنهم كانوا يقدمون معرفة فلسفية -إن صح التعبير- في صبغة أو صورة علمية لا أقل ولا أكثر؟
الهيرمونطيقا أو فن الفهم، هي الأخرى كان يراد لها هذا المنحى بداية، وربما هذا الذي جعل بعض علماء اللغة، يخضعونها بدورها إلى المنهج العلمي، لتظهر اللسانيات الحديثة، بدل الدراسات اللغوية التي كانت قبل سوسر، لكن سيأتي فيلسوفان ألمانيان لن يوافقا على هذا الأمر، أو على الأقل سيعطيان قراءات جديدة للتأويل، وهما جدامير وهايدجر، حيث إنهما سيقللان من شأن لغة النص، فاللسانيات الحديثة والمدرسة الشكلانية الروسية، كانتا قد جعلتا للنص سلطة، ومعنى هذا أن النص يتضمن قصدية أو معنى سابقاً، وما على القارئ إلا محاولة الوصول لهذا المعنى عن طريق اللغة، ونظام العلامات التي هو دال مدلول، لكن مع جدامير وهايدجر ستنتقل هذه السلطة من النص إلى القارئ، أو المتلقي، فهو الذي يحدد معنى النص، وليس اللغة أو المؤلف.
يرى عبد العزيز حمودة في كتابه "الخروج من التيه"، أن هناك مفهومين أساسيين جاءت بهما مدرسة التلقي، والتي يمثلها جدامير وهايدجر، وهما الدائرة الهيرمونطيقية وامتزاج الآفاق، ويمكن تبسيط معناهما كالآتي، فالمفهوم الأول يقول إنه ينبغي النظر إلى النص باعتباره وحدة متكاملة، ومعنى ذلك أننا لكي نفهم جزءاً من النص، والذي هو كل، ينبغي أن نفهم كل النص، فالجزء يفهم في إطار الكل، كما أن الكل يفهم في إطار الجزء أيضاً، حيث لا يمكن فهم النص بعيداً عن جزئياته، كما لا يمكن فهم جزئياته بعيداً عن النص ككل.
النص يفهم في سياق القارئ، وليس في سياق المؤلف، فدائماً هناك سياق معين يحكم القارئ
وأما المفهوم الثاني وهو امتزاج الآفاق، فالنص يفهم في سياق القارئ، وليس في سياق المؤلف، فدائماً هناك سياق معين يحكم القارئ، فالقارئ على سبيل المثال في القرن التاسع عشر يفهم النص في سياق القرن التاسع عشر، بينما القارئ في سياق القرن الحادي والعشرين، يفهم النص في سياقه أيضاً، ولهذا فهذه المدرسة تجعل السلطة الكاملة في التأويل للقارئ، وهذا يعني أيضاً عدم القول بتاريخية النص، وفي الآن نفسه عدم القول بسلطته، أو أنّ بناءه هو الذي يحدد معناه، بل للقارئ السلطة في تفسيره وتأويله، ومعنى هذا أننا نلغي قصدية المؤلف أيضاً، مما يعني انفتاح النص على احتمالات وتأويلات عدة، أو انفتاحه على معان غير متناهية، كما سيأتي مع المدرسة التفكيكية.
في ثلاثيته الرائعة، "المرايا المقعرة" و"المرايا المحدبة"، و"الخروج من التيه"، ينتقد عبد العزيز حمودة هذه التوجهات جميعها ويقف معها بشيء من التفصيل، ليثبت أمراً واحداً، وهو أن هذه التوجهات في النقد الحديث، والتي هي مناهج لقراءة وتأويل النصوص، بخلاف ما تدعي من علميتها، فهي ليست إلا مجرد صدى لأفكار فلسفية بالأساس، حتى وإن كانت تقدم على أنها مناهج تعتمد المنهج العلمي، والحياد والموضوعية فهي في الحقيقة ليست كذلك، بل هي لا تعدو أن تكون رجعاً لصدى النظريات الفلسفية لا غير، من هنا نقم على النقاد العرب، كونهم أخذوا بهذه النظريات من غير تمحيص في أسسها العلمية.
للأسف هذا هو الأمر المؤسف، فمثل هذه النظريات جاءت في سياق فلسفي مختلف، حيث ظهرت فيه الفلسفة العدمية، فأصبحت هذه الفلسفات بمثابة نظريات علمية ينبغي إخضاع النصوص لها، مع العلم أن هذه النظريات سرعان ما تتلاشى وتضمحل، ويثبت العلم زيفها، أو خرافتها، كما حصل على سبيل المثال مع نظريات التحليل النفسي، وكذلك النظريات التي كانت تدعو إلى إلغاء الدين بدعوى العلم.