المقامة الكهربائية

28 يناير 2018
+ الخط -
(يعود تاريخ كتابة هذه المقامة إلى سنة 1994)..

حدثنا أبو مرداس الإدلبي، عن أبي عبدو اليعربي، عن السيدة أم نعمان، وهي من أظرف النسوان، تتسلّى بشغل البيت، وتحب ما يُطبخ بالزيت، فهو خفيف على المعدة، ويعطي للجسم سَنْدة، وهي لا تحب (الشوب)، ولا تخرج من البيت (بنوب)، إن هذه المرأة باختصار من علية الناس الأخيار..

فجأة طُرق عليها الباب، وانتظرت حتى يأتيها الجواب، ولما تأخر الطارق بالكلام، أحست بوقوع ما لا يرام، فزاغت بالبصر عيناها، وانحلّت من الخوف ركبتاها، ووقفت في نصف الدائرة، ونظرت في "العين الساحرة"، فرأت زوجها أبا نعمان، قد اختل معه الدوزان، شكلُه غيرُ معروف، ولونُ وجهه مخطوف، وقوفُه غير مريح، يئن ألماً ويستريح، وكان قد أعياه الصياح، وإذ رآها شعر بارتياح، وتقدم يحبو إليها، وألقى بنفسه عليها، وبكل ما تستطيع أن تحملْ، شحطته إلى داخل المنزل، ورجته ألا يخاف، وطلبت لأجله الإسعاف!

يتخيلُ القارئ اللبيب، ما جرى عند الطبيب، وهو أنه تلقى المريض، بطويل من الإجراءات عريض، وبطحه على صدره، و(دَحَّهُ) على ظهره، ليعرف سِرَّهُ من جهره، ودحرجه على الأرض، ليقيس الخلجات والنبض، وأحصى دقات قلبه، طالباً الشفاء من ربه، وأدخل المسبار في أنفه، وكاد يوصله إلى حتفه، وقال له (خذ نَفس)، ومن حسن الحظ ما عطس، لكان في الحال فطس! وسأله مئة سؤال، طالباً أجوبتها في الحال، والرجل يئن ويتوجع، وللخلاص من علقته يتطلع، والمرأة تفرك يداً بيد، تتابع ما ليس منه بد، أجفانها ببعضها تتلزَّق، ونياط قلبها تتمزق، إلى أن انتهت المعاينة، ومن دون تمهيد أو مداهنة، أعلمها الطبيب الفهمان، أن زوجها أبا نعمان، كخلاصة للكلام والأقوال، يعاني من مرض عضال، فشهقت أيما شهقة، وابتدأت معها الفهقة، ولولا الخجلُ الحياء، لعاجلت الطبيب بالدعاء، طالبة من العلي القدير، أن يطرحه في السرير، بجانب زوجها العثير!


وبعدما أخذتْ مع الطبيب ورَدَّتْ، وفهمت القضية التي استجدَّتْ، طلبت منه خلاصة الرأي، فصفن وأجابها بعد لأي، بأن وضع زوجها الخطير، لا ينفعه سوى التنظير، وإذا كان الوضوح في البيان، يُبطل أعمال الشيطان، فإن كلفته خمسة آلاف، وهذا يا ستي قمة الإنصاف، وقبل أن تبدأ بالفأفأة، وشرح الأوضاع والتأتأة، حسم الطبيب الأمر، وقال بكثير من النتر، أنْ لا داعي للمجادلة، وكثرة العلاك والمفاصلة، وإذا لم يعجبها ما حصل، فالباب يمرر الجمل!

وما حصل يا إخوان، أنا السيد أبا نعمان، بعد جدال وخذ وهات، قد أُدخل إلى غرفة العمليات، وجاءته ثلاثٌ من الممرضات، يقلن للقمر هيهات، أن تحوز من جمالنا الفتات، تَلَقَّيْنَهُ بالضحكات والابتسامات، وبأعذب الألفاظ والكلمات، وهدأنَ من خوفه وروعِه، فتسطح على الطاولة بطوعه، ومددن لجسمه الأسلاك، فتوقف عن الحكي و(العلاك)، وغاب في الملكوت والأفلاك.

وجاء الطبيب القدير، ووراءه فريق التخدير، وأسند قدمه على السرير، ورمق المريض بعينه، كأنه مديون لا يفي بدينه، وأعطى للممرضات إشارة، تنم عن قمة المهارة، كمدرب حقق فريقُه الصدارة، فأتت إحداهن بالمنظار، ووضعته بجانب المسبار، ومثلما كنا نحمل الفانوس، ونبحث في الجب عن القادوس، تدلى المنظار في حلقهِ، وكاد يؤدي إلى خنقهِ، ولولا أن الله لطف، لأصبح من صالح السَّلَف.

ونظر الطبيب إلى شاشة، إلكترونية ما لها قماشة، فرأى في معدته الأهوال، وفظائع أقوى من الزلزال، وقال للزوجة تعالي في الحال، تفرجي على معدة رَجُلِكْ، ولا تقطعي من الله أملك، لقد عرفنا مكان الإصابة، وليس في هذا غرابة، فالطب في بلادنا تطور، والجهل تراجع وتقهقر، الآن ننهي عملية التنظير، وتظفر معدته بالتحرير، ونضع صوره في الألبوم، ونعلق في وريده السيروم، وما هو إلا بعضُ يوم، ويخرج من هذا المكان، كمهر من صلب حصان.

كانت أم نعمان تريد، أن تشكر الطبيب وتزيد، وتهنئه على مهارته والخفة، وسرعته في الانعطاف باللفة، ولكن ما حصل إذ ذاك، أوقع الجميع في ارتباك، فقد سمعوا منظم الكهربا، من دون أن يقول مرحبا، وكصوت حجر وقع في الجب، هبط سريعاً قائلاً: بُبْ!

تراكض الموجودون في كل جانب، كالموظفين يوم قبض الراتب، حاول بعضهم تشغيل المنظم، وشرع الآخر يرغو ويبرطم، وشرعت أم نعمان، تقول يا ربي أمان، تداركْ يا طبيبُ الموقفْ، قبل أن يحصل الأمر المؤسفْ، ويصبح زوجي أبو نعمانْ، محذوفاً كخبر (كانْ)، فشرع الطبيب بالاتصال، بقسم الصيانة في الحال، وبعد السلام والمرحبا، سألهم عن حال الكهربا، ولماذا انقطعت هذا الحين، مع أنه ليس وقت التقنين، فضحك العامل حتى استغرق، وكاد فمه أن يتمزق، وقال إن هذا الانقطاع، لا علاقة له بالفقد والضياع، فاسمع وخذ الحقيقة مني، ما هذا إلا عطلٌ فني، وانتظر من الدقائق خمسا، يأتك الفرجُ رأسا، وقد ظهر رقمُك على الكاشف، سنحلها ونخبرك بالهاتف، بما يستجد في القضية، وستسرك الخبرية!

وبعد أقل من دقيقة، توصل الطبيب للحقيقة، ذلك أن عامل الصيانة، قد أدى واجبه بأمانة، واتصل بقسم الورشات، وبرئيس الطوارئ بالذات، فلم يجد أحداً في منزله، مع أنه غائب عن عمله، ثم خَبَّرَهُ على الموبايل، فأتته الإجابة بالحال، بأن هذا الرقم مقفل، أو ربما أنه معطل.

وقبل أن يتحرك في فمه اللسان، ليرد على العامل الفهمان، أفهمته الأخت أم نعمان، أن الرجل الملقى على الطاولَهْ، ذا الروح الطالعة النازلَهْ، الذي علق المنظار داخلَهْ، هو نفسه عامل الإصلاح، الذي يبحثون عنه بإلحاح، فإذا كنت شاطراً بالرياضيات، وبالماتريسات واللوغاريتمات، وعلم الجبر والمفاضلة، فسر لي هذه المعادلة!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...