المغرب... المسألة الأمازيغية والمواطنة
شكلت الهوية إحدى القضايا المهمة التي استأثرت باهتمام كتاب مغاربة أسهموا في تقديم كتابات حولها، ومن أبرز هؤلاء نجد الكاتب المفكر والأديب، حسن أوريد، صاحب الإنتاج القيّم والغزير في مجال الفكر والثقافة والأدب بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إذ أصبح اليوم قبلة لكبريات القنوات الدولية وكتبه حديث الجميع.
اعتبر أوريد في تناوله إشكالية الهوية، أنّه يفضل مصطلح المواطنة عوض الهوية. لماذا؟ لأنّ الحديث عن الأخيرة يرمز إلى الخصوصية مقابل الاختلاف مع الآخر، ويحيل على هوية بديلة.
وقال أوريد في أطروحته الداعية إلى تجاوز خطابات الهوية، إنّ هذه الأخيرة تحتوي على أخطار من شأنها أن تهدّد تماسك المجتمع. وقد ظهرت بسبب عوامل، تتمثل إمّا في البحث عن الاعتراف في المجتمعات التي لا تعترف بجماعات تشكّل جزءاً من نسيجها، أو في ما اعتبره يتصل بما يطلق عليه "ندوب الاحتقار"، أي معاناة جماعات أو طوائف من الازدراء والصور النمطية السلبية، وكذلك ما هو مرتبط بـ "استعداء الآخر"، أي اعتباره مسؤولاً عن مظالم الأفراد الذين يحملون خطاب الهوية ويترافعون عن حقوقهم في إطار دفاعهم عمّا يميّزهم.
كانت النخب الأمازيغية في طليعة من كتبوا في مجال الهوية، لكون الأمر مرتبط بطبيعة الحال بالإنكار الممنهج الذي تعرّضت له تاريخياً المسألة الأمازيغية. وقدّمت هذه النخب أطروحة فكرية وسياسية متكاملة دفاعاً عن الأمازيغية كلغة وثقافة وهوّية وحضارة وانتماء مجالي وتاريخ، وأنتجت بذلك خطاباً مبنياً على التعدّد والتنوّع في مقابل الخطاب الرسمي الذي يحصرها في ثنائية الإسلام والعروبة، وينكر بالتالي باقي المكوّنات.
لا يمكن تحقيق ديمقراطية في غياب الاعتراف بالمكوّن الثقافي الأمازيغي في أبعاده المختلفة
كما انطلقت الحركة الأمازيغية بالمغرب من كونها حركة هوياتية بامتياز، ناضلت على جبهات متعدّدة من أجل تصحيح المفهوم السائد للهوية الذي تبنته الدولة بعد الاستقلال لاعتبارات أيديولوجية وسياسية معروفة. وفعلاً، تكلّلت نضالات الحركة الأمازيغية بالتوفيق بفعل تلاقيها الموضوعي مع رؤية جلالة الملك محمد السادس واقتناع قطاع واسع من الطبقة السياسية بجدلية الأمازيغية والديمقراطية، وأنه لا يمكن تحقيق ديمقراطية في غياب الاعتراف بالمكوّن الثقافي الأمازيغي في أبعاده المختلفة. هذا فضلاً عن متغيّرات إقليمية ووطنية لعبت دورها الإيجابي في عملية بروز مفهوم جديد للهوية جسّدته الوثيقة الدستورية سنة 2011.
لقد عبّر دستور 2011، كدستور للحقوق والحريات والهوية بامتياز، عن انتصار تاريخي للخطاب الأمازيغي بعد أن جرى الإقرار بشرعية التعدّد في بعده اللغوي والثقافي والهوياتي.
من هذا المنطلق، نعتقد أنّ دعوة المفكر والأديب، حسن أوريد، لتجاوز خطابات الهوية والانتقال إلى المواطنة والعيش المشترك، تبقى صائبة، وتتضمن جانباً كبيراً من العقل.
نعرف جيداً أنّ بدايات خطاب الهوية برزت في أوروبا والدول الإنكلوساكسونية في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، ثم حضر بقوة بعد التحوّلات الكبرى التي عاشها العالم منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وما تلاها من أحداث بعد سقوط جدار برلين، وعودة القوميات والهويات إلى الواجهة الدولية، إثر تفكك الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وسيبرز هذا الأمر بشكل كبير في دولة يوغوسلافيا سابقاً التي فككتها الصراعات الدموية القاتلة، ثمّ بشكل همجي في دولة رواندا.
خطاب الهوية في العمق انعكاس لغياب الديمقراطية من خلال، إمّا وجود خلل في مسلسل المشاركة السياسية، أو توزيع غير عادل للثروة، أو إنكار لمكوّن ثقافي وديني
فخطاب الهوية في العمق انعكاس لغياب الديمقراطية من خلال، إمّا وجود خلل في مسلسل المشاركة السياسية، أو توزيع غير عادل للثروة، أو إنكار لمكوّن ثقافي وديني، فهو ينتقل من اعتبارات موضوعية تتمثل في ما أشرنا إليه من تهميش وإقصاء، تنتج عنه دعوات الرفض والانفصال، ثم ينتقل ويتطوّر أكثر إلى العنف والتصادم والاقتتال، وما شابه ذلك من الحالات التي يسجلها التاريخ بحروف من الدم.
لقد ذهب المفكر أوريد بعيداً في تناوله هذا الإشكال، عندما اعتبر أنّ تأثيرات خطابات الهوية معقدة، إذ أضحت محدِّدة على المستوى الداخلي لكثير من البلدان، وعناصر مؤثرة على مستوى العلاقات الدولية، وترسم دول ما سياساتها بناء على علاقات خاصة مع هويات معينة، أو حماية لأقليات، ولهذا فهي قد تكون أدوات تدخل في الشؤون الداخلية للدول.
هكذا فحديث المفكر أوريد عن ميله للمواطنة عوض خطاب الهوية يتضمن جانباً كبيراً من الحكمة، لأنّ المواطنة تحيل إلى الدولة المدنية الحديثة المبنية على قيم كونية، وتشكل فضاءً شاسعاً ومتسعاً لتدبير التعدّد اللغوي والتنوّع الثقافي وإدارة وضبط النزاعات، فضاء يقبل الاختلاف والتعايش والعيش المشترك بعيداً عن خطاب العداء والتناحر.