المعتزلة وعقلنة الدين
يسجل للمعتزلة أنهم أول فرقة أو جماعة نخبوية في الإسلام أعلت من شأن العقل ووضعت له مكانة في الدين نفسه، وفتحت آفاقه ودافعت عنه باستماته، واعتبرته لا حدود له، ويمكن له سبر أغوار المعرفة، وهذا يعد عملاً عظيماً مقارنة بأحوال تلك المرحلة، التي للتو بدأ ينتقل فيها العالم الإسلامي من البداوة أو من الدولة العسكرية في أيام بني أمية إلى الدولة الحضارية التي ساد فيها الفكر وانفتحت على جميع ثقافات الأمم وبدأت تتبلور المرحلة الحضارية. وهذا كله من حسنات تلك العقول الجبارة التي يحملها رواد الاعتزال، لا سيما الطبقة التي وضعت أسس الاعتزال مثل العلاف والجاحظ والنظّام "بتشديد الظاء" والجبائي وغيرهم.
وكل حركة الترجمة جاءت وازدهرت أيام المأمون يعود الفضل فيها إلى المعتزلة، وكل العقول الجبارة في حضارتنا الإسلامية، ثمرة من ثمرات المعتزلة، فقد تولد عن جهاد المعتزلة العقلي كل من الجاحظ والكندي وابن رشد والغزالي وابن سينا والمعري وأبي حيان التوحيدي وحتى ابن خلدون. تصور أن تأتي جماعة في تلك الحقبة البسيطة التي سيطر فيها النص وتشيع الإسلام إلى فرق فقهية، تأتي وتقول إن العقل حاكم على النص، وإن العقل هو مناط التكليف، وتحاول عقلنة الدين، وإذا خالف النص العقل لم يعيبوا العقل، بل أولوا النص ليتماهى مع العقل.
آمن المعتزلة بحرية الإرادة الإنسانية، وقالوا إن الإنسان يخلق أفعاله إن كانت خيراً أو شراً، وعليه يكون الثواب والعقاب، إذ لا قيمة للثواب والعقاب في ظل جبر الإرادة.
وقال المعتزلة قبل كانط وهيغل وديكارت، رواد التنوير العقلي في أوروبا، إن العقل أداة المعرفة، والحواس تنقل له الحسيات مشتتة مبعثرة وهو ينظمها ويصيغها معرفة، وهذا الذي قال به كانط ويعتبر لب مشروعه العقلي النقدي في القرن الثامن عشر الميلادي. اعتبر المعتزلة أن الإيمان وفق العقل هو الايمان الأسمى، ولا قيمة للإيمان بدون العقل.
ومن نظريات المعتزلة المثيرة للاهتمام قولهم بأن العقل هو الذي يحسن ويقبح وليس الشرع، أي أن المذموم من الأخلاق والأفعال صار مذموماً بسبب ذم العقل له بالأساس، وأن الحسن من الأقوال والأفعال هو حسن بالعقل، وحتى لهم في ذلك نظرية في علم الجمال، أي أن الجميل هو الذي يروق له العقل.
كما رفض المعتزلة كثيراً من الأحاديث وشككوا في الرواة، ونقدوهم واتهموهم بالكذب والتقول على الله ورسوله، واستدلوا بمنع عمر للصحابة من كتابة الحديث النبوي. كما قال المعتزلة بخلق القرآن، أي أنه حادث ووفق وجهة نظرهم هذا أقرب للعقل من كون القرآن قديماً أزلياً. قالوا إن القرآن يتعامل مع أحداث ويعالجها وهي أحداث مخلوقة بزمان ومكان. لذا يجب أن يكون القرآن مخلوقاً.
فرق المعتزلة بين مبدأ الإرادة في فعل الإنسان وحتمية قوانين الطبيعة التي تقوم على مبدأ السببية، وقالوا إن هذا الكون محكوم بقوانين ثابتة وفق مبدأ السببية، وهذا يعتبر رأياً متقدماً قياساً بذاك العصر. وهو الذي أيده وجاء به كثير من الفلاسفة الغربيين مثل كانط وسارتر وغيرهما.
لكن المعتزلة لم يستطيعوا أن يؤسسوا مجتمعاً من الجماهير، تعتقد بعقيدتهم على عكس الحنابلة والشيعة بطوائفهم والأشاعرة وغيرهم، وهذا برأيي له عدة أسباب.
أولاً: أن مقولات المعتزلة قائمة على فلسفة عقلية لا تفهمها الجماهير البسيطة، وهي بعيدة عن العاطفة المذهبية التي تجعل العامة تعتنق ما تقوله الرموز، لا سيما التي تمس العواطف.
ثانياً: نخبوية المعتزلة وبعدهم عن المجتمع العادي. فعند الأشاعرة والشيعة والحنابلة مثلاً يمكن أن يكون الشخص أشعرياً أو شيعياً أو حنبلياً، ويكون إنساناً عادياً. أما اذا كنت معتزلاً فأنت فيلسوف، لك فلسفة في كل الأبواب، وهذا جعلهم يخفقون في صناعة مجتمع يؤمن بعقيدتهم.
ثالثاً: اختلاف المعتزلة فيما بينهم، وذلك كونهم نخبة فكرية وليست مذهبية فقهية، فكل واحد منهم له نظرة وفكر مختلف عن الآخر.
رابعاً: اعتزاز المعتزلة بعقولهم وآنفة أنفسهم، حيث كانوا يأنفون من التواصل مع العامة، ويرون إن العامة تمثل الغباء والدهماء والشعبوية، لذا قال بعضهم: إن اجتماع العامة شر وتفرقها خير، يعني اذا اجتمع العامة يحدث التعصب وتنتشر الفتن، وإذا تفرقت فادت المجتمع من حيث تتنوع مهنهم بين حداد وخباز….إلخ.
يعاب على المعتزلة مخالفتهم لأهم مبدأ قالوا به، وهو الحرية وعدم استخدام القمع لإجبار الناس على الاعتقاد بأمر ما، إذ عندما وصلوا إلى السلطة عن طريق الخليفة المأمون، نكلوا بخصوهم التقليدين من الحنابلة، وما جرى للإمام أحمد بن حنبل من تعذيب وعنف على يد السلطات بتحريض من القاضي ابن أبي دؤاد المعتزلي، معروف ومشهود.
وإن كان بعض الدارسين المعاصرين يبررون بأن القاضي ابن أبي دؤاد لا يمثل كل المعتزلة، وأن محنة الإمام أحمد راجعة لأسباب سياسية، لكن هذا الرأي يضعف إذا عرفنا أنّ المعتزلة في عصر المأمون كانت لهم اليد الأساسية في السلطة، وأنهم ثأروا لأنفسهم من خصومهم الذين طالما ضيقوا عليهم منذ أيام واضع حجر الاعتزال واصل بن عطاء. وهنا يشبه المعتزلة بعض الليبراليين العرب، الذين يدعون للتنكيل بخصومهم في حال وصلوا أو تقربوا من السلطة، مخالفين لأهم مبدأ طالما نادوا به، وهو الحرية.