02 سبتمبر 2024
المضحك المبكي (1)
حدثنا الأستاذ كمال عن مجلة "المضحك المبكي" التي عاشت في سورية 37 سنة، منذ أن أسسها الأديب والفنان حبيب كحالة سنة 1929 على أيام الانتداب الفرنسي، وحتى إغلاقها على أيدي البعثيين الأشاوس في سنة 1966.
فكرة المجلة تقوم على نوعين من الكاريكاتير، كاريكاتير بالكلمات، وكاريكاتير بالخطوط، وكانت شعبيتها في سورية واسعة جداً، ونسخُها تنفد من الأسواق منذ الصباح الباكر، والنسخة الواحدة يتناقلها الناس من يد إلى يد، يقرأونها ويستمتعون بلذعاتها وطرائفها ثم يعيدونها إلى صاحبها الأصلي ليحتفظ بها في مكتبته.
قال أبو إبراهيم: شو قصة البعثيين مع الصحف؟ ما بسمعْ غيرْ إنهم سَكَّرُوا صحيفة، وأغلقوا مجلة، وصادروا كتابْ.
قال كمال: الأنظمة الديكتاتورية كُلّْها بتهتمّْ بقمعْ حرية التعبيرْ، وأبرزْ تجليات حرية التعبيرْ هوي الصحافة، ولذلكْ بتسعى لبناءْ مؤسساتْ رقابية حديدية. وهاي الرقاباتْ لما بتكون الدولة الديكتاتورية متخلفة بيطلع منها مواقفْ مضحكة.
قال أبو زاهر: قبلما نحكي عن هالمواقفْ المضحكة، إذا في مجال تخبرونا ليش حبيب كحالة سمى مجلتُه "المضحك المبكي"؟
قال كمال: برأيي سَمَّاها هيك لحتى يبعدْ عن نفسه شبهة التهريجْ، بمعنى آخرْ، كان قاصد يقول إنه اللي بيحصلْ في بلادنا هوي شر البلية، لذلك هو مُضْحِكْ.. يعني نحن ما منضحك بسبب الشبعْ والامتلاءْ في المجالس العامرة الخاصة بالفرفشة، وإنما من شدة الوجعْ..
قلت: أنا بأكّدْ على كلامْ الأستاذْ كمالْ. وراح أضرب لكم مثالْ. مرة، في سنة 2015، كنا عم نسهرْ في مدينة عنتاب التركية، وكان معنا الصديقْ راشدْ الصطوفْ. راشد حكى لنا في السهرة على يومْ أخدوهم هوي وبعضْ المعتقلين الآخرين من فرعْ فلسطينْ بدمشقْ إلى سجنْ تَدْمُرْ الصحراوي. الرحلة اللي حكى عنها راشدْ كانت طويلة، وملحمية، وكلها إيذاءْ وضربْ ومسباتْ وإهاناتْ، ومع ذلك طوالْ ما كان عَمْ يروي التفاصيلْ كنا نحنْ عَمْ نضحكْ. بيحكي، مثلاً، كيف إنه قبلما يعتقلوه كان شاري كلاش (حذاء صيفي) جديدْ، ومبسوطْ كتيرْ بهالكلاش، وفي مرحلة من مراحل السفرة إلى تدمر بيجي عنصرْ واضحْ عليه أنه وسخْ وحقيرْ وبيتولَّى عملية تعذيبه. وأثناء التعذيبْ بينتبهْ العنصرْ إلى إنه كلاش راشدْ جديدْ، ومتينْ، وشكلُه حلو، ومن دون أي وازعْ من ضميرْ بيشلَحْ الكلاشْ العتيقْ اللي لابسه، وبيعطيه لراشدْ، وبياخدْ منه كلاشُه الجديدْ. ورغم تراجيدية الموقفْ بينسى راشد آلامه وبيفكر إنه هادا العنصر الوضيعْ ضحكْ عليه، وأجبرُه على إجراءْ عملية مبادلة مجحفة، وبيقررْ إنه يردّ لُه الصاعْ صاعينْ، وبيروحْ فوراً لعند واحد مبينْ عليه إنه مسؤولْ، وبيقله إنه من واجب إدارة السجن إنها تحافظْ على الملكية الخاصة للمساجينْ، وبيحكي له كيفْ هداك العنصرْ بادله الكلاش الجديد بكلاش قديمْ تَخَّانْ.
ضحك أبو زاهر فجأة وقال: من خلالْ خبرتي الطويلة بسجنْ تَدْمُرْ، بقلك إنه صاحْبَكْ راشدْ بوقتها كان غِرّْ. لأنُّه في سجنْ تدمر كانوا المساجين نوعين، النوع الأول هدفه الأساسي في الحياة إنه يبقى على قيدْ الحياة لوقتْ ما تحصلْ مُعجزة ويطلعْ من السجنْ ويكمّلْ حياته مع أهله، والنوع التاني كان بيتمنى إنه يموتْ ويخلصْ من هالحياة اللي ما حدا بيعرفْ لأيمتا راح تستمرّْ، فإذا كانت أرواحْ المساجين نفسها تُزْهَقْ بشكل يومي، وما في حدا بيطالب إدارة السجن بالإنسان اللي بينقتل، من وينْ أجتُه لراشدْ فكرة الحفاظْ ع الممتلكات الخاصة؟!!!
قلت: طبعاً في ما بعدْ عرفْ راشدْ وغيرْ راشدْ طبيعة سجنْ تَدْمُرْ اللي كانْ واحدْ من السجانين كاتبْ على بابُه الخارجي عبارة (يا داخلْ هذا المكانْ، إِنْسَ الزمانْ).. المهم نحنا بعدنا في الجانب "المُبْكي"، ويمكن جرعة البكاءْ تزيدْ لما منعرفْ إنه راشدْ اشتكى للضابطْ على العنصرْ اللي سَرَقْ لُه الكلاشْ، ولكنه فوجئ بإنه الضابطْ أحقرْ من العنصرْ بكتيرْ، وعلى الفور بَلَّشْ فيه ضربْ ومسباتْ، وقال له إنه هوي راح يعاقب العنصرْ لأنه اكتفى بسرقة الكلاش، وإنه كان لازم يضربه بالكلاش لأنه سمح لنفسه يشتغل بالسياسة ويوقف ضد القائد التاريخي.. والعنصر سمع هالكلام التشجيعي من معلمه فعاود الكرة وتْعَرَّضْ راشد منه لضربْ أقسى من السابقْ.. بس المضحك في الأمر إنه راشدْ اكتسبْ من وقتها لقبْ "أبو الكلاش"!
قال كمال: هادا هوي المضحك المبكي وشر البلية، بالفعل، لإنُّه راشدْ الصطوفْ إبنْ ناسْ أوادم ومعروفين في مدينة الرقة، وهوي إنسانْ متعلمْ وحاملْ شهادة عُليا في الهندسة، وعضو اللجنة المركزية في حزب سياسي معارضْ، وهدولْ الحثالاتْ أعلى شهادة حصل عليها الواحدْ منهم هي البكلوريا، وعلى الأغلبْ بمجموع قليلْ، أو بالغش، أو بالمساعدة، ومع ذلك بيسمحوا لأنفسهم إنهم يهينوه، ويضربوه، ويسبوه..
قلت: الكلامْ اللي حكاه صديقنا كمال صحيح، لكنُّه تراجيدي (مُبْكي). المضحك برأيي إنه راشدْ اكتسب من هداكا الوقت لقب "أبو الكلاش"، واللقب مشي عليه بين هدول الحثالات، ولما كانوا يعملوا حفلة تعذيب جماعية، كان واحدْ من الجلادين يقول للتاني: عندك أبو الكلاش! فيضربه ويقول للأول: زكاتك ادفشْ لي أبو الكلاش لهون! وفي وقت متأخر من السجنْ، بعدما صارتْ الأمورْ روتينية، تْمَكَّنْ واحدْ من ناشطي حقوقْ الإنسانْ إنه ياخدْ موافقة من مديرية السجنْ بأنه يْدَخِّلْ كمية ملابس للمساجين، ولما قعدوا المساجين ليوزعوا الملابس، وجدوا بينها كلاش صيفي جديد ومتين وشكله حلو، فصاحوا بصوت واحد: الكلاشْ لراشدْ!