المستقلون في برلمان العراق... واقع نصفُه أحلام
مونتسكيو، برَّر ضرورة فصل السُّلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، بقوله الشهير: "السُّلطة توقِف السُّلطة". في العراق، تبدو السُّلطة الأولى (وفق تقييمي الشخصي) طفلاً يُعاني من "فرط الطاقة" الحزبيَّة. النشاط الحزبي هذا، الذي يرتدي قبعة البرلمان، يستطيع بكُلِّ بساطة نسخ كلمات الفيلسوف الفرنسي إلى: السُّلطة تأكلُ السُّلطة.
البرلمان العراقي، رغم كُل المثالب، فُرصة سحريَّة، تُشبِهُ "جاك وحبَّات الفاصوليا" (حكاية خرافية إنكليزية)، لتجذيرِ مستقبلٍ مُختلف للبلاد، يختلِف عمّا مرَّ به في تاريخِه المعاصر، على أقلِّ تقدير. العيبُ القاتِل في شجرة جاك العراقية، أنَّها تعتمِدُ بعكسِ القبب النيابية في العالم، على جماعاتٍ مصلحيَّة (رجال أعمال نافذين بسبب علاقاتِهم السياسيَّة مثلاً) وأحزابٍ سياسيَّة، تُقرِّرُ مرور القوانين بسلاسة، أو دهسها حتى الموت، والفاعِلُ دائماً مجهول حزبياً في العراق.
اللطيف أنَّ هذه الجماعات، في الشقيقات البرلمانيات، يُقنَّنُ دورها باستمرار، كلاعبٍ ثانوي، وظيفتُه أن يقوم بتحويل نبض الشارع ومطالبه إلى حبَّات فاصوليا، من الممكن أن تنمو في تُربة البرلمان، لا أن تتحكم بضبطٍ قانوني مُطلق، للتشريعات الناجية من الدهس الحزبي. باختصار، هكذا تأكُل السُّلطة الأولى، بقية السُّلطات ونفسها أيضاً. النتيجة أنَّ الذائقة الشعبيَّة تتذوق عمل البرلمان، كما تأكُل السمك: لذيذ الطعم، مذموم الرائحة.
الانتخابات القادمة، قد تستطيع تغيير بعض الشروط؛ التي يعيشُها هذا البرلمان، والسؤال كيف؟
كشفت نتائج انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021، عن فجوةٍ بين الأحزاب التقليدية والشارع العراقي. حجمُ الفجوة يشبهُ المسافة بين الأرض والقمر، مقطوعةً بـ"رينو 11". طبعاً، هذا القول الشعبي المأثور (رينو 11)، يُشير إلى من يستخدم القدمين فقط في تنقلاته، ولا يمتلك وسيلة نقلٍ خاصَّة به. أفصحت كذلك عن رؤيةٍ عمليَّة للشارع العراقي، بأنَّه يحتاج إلى نوَّابٍ مستقلين (أنا واحِدة من المستقلين) لتغيير معادلات الحُكم والإدارة، في بيئة العراق السياسيَّة؛ الفريدة جدّاً وبشكلٍ لا يُطاق!
الحياة النيابيَّة في العراق (نستطيع المغامرة على اعتبارِها كلمة رديفة للعملية السياسية)، بحسب تجربتي البسيطة، التي أزعمُ أنَّي أثريتُها بملاحظاتٍ، حَرِصتُ على جمعِها بخطوات سلحفاة ودقة نملة، إنّ نتائج الانتخابات الماضية، لو استطاعت أن تُعطي قُبلة الحياة البرلمانية لمائة نائب، لأصبحوا ما بات يُعرف في الأدبيات السياسية الدارِجة بـ"الثُّلث المُعطِّل". الأكيد أنَّهُ لن يكون مُعطِّلاً، لتمرير ما يخدم الناس من قوانين، بل سيُمارِس نسبة كبحٍ ممتازة للأجندات: الإقليمية والدولية للأحزاب الكلاسيكية، ومُراهقة "الزعامة"؛ التي تأكُل حياة السياسيين العراقيين، حيثُ كشفت التجربة أنَّ كثيراً منهم يتقاعد، ولا يُعرفُ من هم، إلَّا في كشوفات المتقاعدين: نيابي سابق وأسبق!
إنَّ الذائقة الشعبيَّة تتذوق عمل البرلمان، كما تأكُل السمك: لذيذ الطعم، مذموم الرائحة
أعترف، إنَّ منطاد المستقلين في هذه الدورة النيابية قد ثُقِب، رغم أنّ غاز الهيليوم الشعبي قادِرٌ على ملئه، بدل المرَّة آلاف المرّات، بسبب الرغبة الجارِفة في التغيير. السبب أننا كمستقلين (نسبة كبيرة) افتقدنا الوصول إلى عتبة الثقة الكافية بالنفس، ولم نُمارِس العمل السياسي بشكلٍ مُنظَّم وبإصرار.
فقدان الثقة بدوره بين بعضنا، سهَّل تفكيك محاولات دمج طموحاتِنا بشكلٍ مؤسسي، وأصبحنا إوزاً برياً لا يحتاج صيدُ صدقيته إلّا إلى بُندقيةٍ إعلاميَّة، ويا لوفرةِ هذه البنادق في ميدان الرمي الحزبي.
اللجان البرلمانية مهمة أيضاً، وأعتقد إنها ستفتِنُ عن المعدن النيابي للمستقلين. إذا تحمَّل هذا المعدن الطرق الحزبي، وكان عيناً ثالثة للشارع، فهو سيكون قادراً على تقليل سطوة المصالح الحزبيَّة، وألوهية زُعمائِها الزائفة، في العمل السياسي.
الأمانة تُحتِّمُ عليّ، أن نقول ما هو معروفٌ عن لجان البرلمان العراقيَّة، ولو على نِطاقٍ ضيّق (صُدفة أو عارض لمرض الصَدَف لجِلد أبسط المعلومات.. أنتم قرّروا) بأنّ الأعداد النيابية التي تُشكِّلُها، تمتلك كرشاً في بعضها، ونحيفة جدّاً في أُخرى، وبحسب الصفقات التي تدخل حمام "المحاصصة"، ولا تُخرج للملأ، إلَّا على شكل قانونٍ مرن، كُل تأويلاته صحيحة!
الإعلام الحزبي يروِّج هذه الأيّام أنَّ هناك لِجاناً مهمة، قرّر النوَّاب المستقلون، أن يشمِّروا عن سواعِدهم في سوحِها. الأكيد أنَّ هناك نوَّاباً من هؤلاء الزملاء، صادقي النيّات، لكن ومن أجل الدقَّة لا الرثاء الطوباوي، هناك نسبة لا تقلّ عن الخمسين في المائة، من بين زُملائي، في العمل النيابي المستقل، هم ذهب برازيلي/ مُزيَّفون، إذ يتبعون جهاتٍ سياسية منذُ النشأة، أو كشفوا وسامة ملامِحهم الحزبيَّة بعد الفوز.
افتقد المستقلون الوصول إلى عتبة الثقة الكافية بالنفس، ولم يمارسوا العمل السياسي بشكلٍ مُنظَّم وبإصرار
لُعبة التشريع النيابي بشكلٍ صحيح، قد تحتاجُ جهوداً من المستقلين، لمنع وجود هذا النائب البرازيلي في اللجان المهمة، وذلك أضعفُ الإيمان. لكن الشِّراك الحقيقية لاصطياده، قيام المستقلين بالعمل بشكلٍ مؤسساتي، لا من طريق اللسان، واستعراضات دون كيشوت. يجب أن يعترف المستقلون بأننا نواجهُ أحزاباً تسيرُ بسرعة فيراري، يقودها أحد أولادهم، لدهس أمل تغيير اللعبة السياسية، لصالح البلاد والعباد. طبعاً أنا لا أقصُد زملائي كأفرادٍ في تلك الأحزاب المأزومة، وإنّما ككيانٍ سياسي.
يتحملُ طبعاً هؤلاء الزملاء، ضريبة تاريخيَّة، وسيعلمون بعد زمن، أنَّ زعماء كُتلِهم، يحمِلون حقائب ثقيلة من المسؤوليات التشريعية والقانونية؛ التي ستجعلُ تاريخهم مُضيئاً جدّاً! لكن هذا النوع من الأنوار، لصيقٌ بهم أيضاً، لأنهم رضخوا للضغط وفرض الرأي، وغيَّبوا عقولهم. الخُلاصة: أصبحوا أداة للمفسدة السياسية.
نحتاجُ آخِراً أن نكتُب بقلم الرصاص، نبوءة جدار (مصطلح للكاتب البريطاني كريستوفر ديفيدسون) عن بعض تفاصيل الانتخابات القادمة، والمخاطر البرازيلية التي تُطارد المستقلين!
التوجهات المدنيَّة، التي تُشبِهُ الكالسيوم في عِظامٍ أي عملٍ نيابي مستقل، ستكون الأوفر حظاً في القادم الانتخابي، بسبب الإرادة الشعبيَّة. قانون الدوائر المتعدّدة الانتخابي، الذي عبَّر عن طموحات الشارع الانتخابيَّة، بشكلٍ أفضل نوعاً ما، قد يُستبدل بقانون سانت ليغو السيّئ، الذي من المزمع عودة الأحزاب الكلاسيكية له.
لا نتوقَّع أنَّ سانت ليغو باشا، يستطيع العودة بالحياة السياسية، إلى المرحلة الكالِحة، التي تُعرف بـ "المربع الأول". أي سياسة تتألف من: مصالح حزبية، طائفية، ومكوناتيَّة.
أهم أسباب عدم قُدرة الباشا على الرجوع بالشيخ، إلى صِباه "المُربَّع"، أنَّ حَراك المستقلين، بات أكثر تنظيماً، ويشي بأنَّهم في قادِم الأيّام سيتجهون لا محالة إلى العمل، بطريقة تكتلات برلمانية، تستطيع أن تُمارس تأثيراً نسبياً.
الوعي بالواقع السياسي للبلاد، يدفعُنا إلى القول بأنّ العكس ممكنٌ أيضاً، إذا أُجريت عملية تلاعب كبيرة بنتائج الانتخابات القادمة، لتساعد الباشا على أداء مهامه! كما أنّ المال الحزبي سيستمرُ بمحاولاته، لشراء ذمم المستقلين وحركاتِهم. طبعاً، هي ستعهد بالمهمة لأحزابٍ مستقلة برازيلياً، تُشكِّلُها في الانتخابات القادمة! كي تبقى طاهرة اليد.
نتمنى أن يحصل الأفضل، لكن كُل الاحتمالات واردة. الفارق سيكون دور الإرادة الشعبيَّة، إذ إنّ وعي الشارع العراقي، بات مؤمناً، بأنَّ كُل فيراري لأبن مسؤول، ستدهسُ مستقبله، إذا ما انتُخِب والِدُه!