المرأة التي غيّرت وجهة نظر العالم

30 اغسطس 2023
+ الخط -

يكاد يتفق الجميع أنّ أحد أسوأ جوانب الحداثة، هي تلك التأثيرات السلبية الجانبية للعلم، سواء على الإنسان أو البيئة. وقد سبقت الإشارة إلى إحداها في مقالة سابقة عن فيلم "أوبنهايمر"، غير أنّ هناك جانبا آخر لم يعد يُشار إليه اليوم بكثرة، وهو ما سمّي "الداروينية الاجتماعية"، وهو تيار علمي كان يحاول تطبيق بعض أفكار نظرية التطوّر للعالم البريطاني تشارلز داروين على المجتمع. ويعتقد البعض أنّ هذه النظرية هي التي سبّبت أحد أفظع جرائم التطهير العرقي التي شهدها العالم في القرن العشرين، بل وما زالت تمارس حتى اليوم تحت أقنعة متعدّدة ومختلفة. أوليس الكائن الحي هو كائن ثقافي بالضرورة؟ وها نحن نشاهد اليوم هذه الهجمة الشرسة على ثقافات الشعوب، ألا يعني ذلك إبادة لها؟

"كلّ معلول يستحق الموت، بل ربّما يجب التخلّص منه ومنع جيناته من الانتشار، مهما كان نوع هذه العلّة، سواء جسدية أو فكرية". هذه كانت بعض أفكار وشعارات "الداروينية الاجتماعية"، وهي مأخوذة من نظرة التطوّر التي ترى أنّ البقاء يكون للأصلح والقادر على التكيّف مع أيّ بيئة. وأمّا الضعيف أو غير القادر على التكيّف، فإنّ مصيره الاندثار لا محالة. وبالتالي إذا ما أردنا أن نخلق مجتمعاً صالحاً لا بدّ أن نطهره بداية من بعض الأعراق، أو أصحاب العاهات! من ذلك على سبيل المثال ذوو الأعطاب الذهنية، أو الأشخاص الذين يواجهون صعوبات على مستوى العقل، وبالتالي فهم غير قادرين على الاندماج داخل المجتمع، وبالتالي التكيّف والمساهمة في الإنتاج، ولذا فليس هناك من حل سوى التخلّص منهم. وإذا ما علمنا أنّنا في عالم تحدّد فيه قيمة الفرد حسب ما ينتجه، وبما يساهم به داخل المجتمع، فإنّ هؤلاء، ولا شك، لا ينتجون شيئاً، وبالتالي فالمجتمع ليس بحاجة إليهم، فموتهم إذن أفضل من بقائهم!

غير أنّه للأسف حتى مع هذا الطرح كان يُظلم الكثيرون، فمثلاً قد يتم التخلّص من أشخاص فقط لأنهم مختلفون عن البقية، ومن ثم يتم الحكم عليهم بأنهم غير قادرين على الاندماج في المجتمع، وبالتالي هم عديمو الفائدة ولا حاجة للمجتمع بهم. لكن هل هذا صحيح علميا؟ هل فعلاً كلّ من هو مختلف يستحق الموت أو أنه غير قادر على المساهمة في تنمية المجتمع؟ ألم يُظلم هؤلاء؟ لا داعي للتذكير بالفظائع التي ارتكبت في حق بعض المرضى النفسيين، وفي كثير من الأحيان كانت الطرق الوحشية في التعامل معهم هي التي فاقمت أوضاعهم، وكلّ ذلك كان ناتجاً عن عدم قدرتنا على فهمهم، أي أنّ الإشكال لم يكن فيهم، بل فينا نحن، ربّما.

أحد أقوى الأمثلة على صحة هذا الرأي هي قصة العالمة الأميركية تمبل جراندين، والتي استطاعت أن تثبت للجميع أنّ العالم يحتاج جميع العقول، وليس عقول البيض فقط، أو عقول الذين نراهم نحن أنهم الأصلح. هذه العالمة الشهيرة شُخصت بمرض التوحّد في سن مبكرة، وهذا يعني في ذلك الزمن أنّها كانت ستقضي حياتها داخل إحدى مؤسسات الأطفال المعنية بذوي الهمم أو الحاجات الخاصة، غير أنّ والديها لم يستسلما لنصائح الطبيب وقرّرا تدريسها في مدارس خاصة حتى حصلت على الإجازة في علم النفس، ومن ثم الدكتوراه في علوم الحيوان، لتلتحق بالجامعة بعد ذلك. بل والأكثر من ذلك، أنّها اخترعت الكثير من الأجهزة التي تساعد قطعان الماشية.

في كتابها "التفكير بالصور" تحكي قصتها، حيث إنّها كانت ترى العالم عبارة عن صور، كما أنها كانت تعاني من حساسية شديدة في السمع واللمس، وهذا ما جعلها تتعرّض للكثير من الصعوبات بغية الاندماج في حياتها الدراسية، غير أنّ وجود بعض الأساتذة الذين آمنوا بقدراتها، ومن ثم شجعوها على المضي في طريقها، ساعدها أخيراً في الانتصار على كلّ الصعوبات التي واجهتها، واستطاعت أن تخلد اسمها، بل وغيّرت نظرة العالم للمصابين بالتوحّد.

كما أنّها ألفت عدّة كتب، وأصبحت ملهمة للأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد، كما أنّ هناك فيلما رائعا يحكي قصتها الملهمة، ويستطيع أن يغيّر وجهة نظر الجميع، حتى تجاه الأشخاص الذين يقصون المصابين بالتوحد من المجال العام.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".