المجنون فريد ابن أبو خلّو (8)
كنا نحكي، في سهرة الإمتاع والمؤانسة، عن وفاة العم "الحاج برهو اخرطي" أثناء الزيارة التي قامت بها عائلاتٌ من الحارة لضريح الشيخ عبد الحنان، سبب الزيارة هو التبرك والاستشفاء، فبعض الناس يعتقدون أن مقام عبد الحنان يشفي من جميع الأمراض السارية والمستعصية!
وقلنا إن موت الحاج برهو كاد أن يتسبب بوقوع فتنة بين عائلتين، فقد علم كبيرُ عائلة "اخرطي" المدعو الحاج مصطفى، أن وفاة ابن عمه الحاج برهو كانت بفعل فاعل، هو فريد ابن أبو خلو الذي استيقظ في الليل على صوت أنين الحاج برهو، وبدلاً من أن يوقظ الآخرين ليساعدوه، ويهرعوا عائدين به إلى البلدة، ويأخذوه إلى المستشفى، قعد مقابله مثل السعدان، وصار يقول له كلمات مزعجة من قبيل (وقواص في حنكك! ورصاص في نيعك! وفشك في زلعومك!).. ما أدى إلى وفاته!
الحاج خيرو الدكاك، وهو رجل محترم، ومسموع الكلمة في البلد، دعا الحاج مصطفى اخرطي وأبو خلو، وبعض الأصدقاء المشتركين، إلى سهرة في بيته، تخللها عشاء دسم، وصينية كنافة أم النارين، وألقى ما يشبه الموعظة قال فيها إن الأعمار بيد الله، ولا يموت أحد في غير يومه، والمرحوم الحاج برهو، الله يرحمه، كان يعاني من أمراض كثيرة، ومهدد بالموت في كل لحظة، والمثل يقول إن (الشاب ممكن يموت، ولكن الختيار بيموت بالتأكيد).
وقال الحاج خيرو: بعدين، يا حاج مصطفى، نحن كلياتنا منعرف الأخ أبو خلو، والله إنه رجل من أطيب الناس، بيمضي وقته في الفلاحة، ولما بيرجع ع الدار يا دوب يتعشى ويصلي العشاء، وبيحط راسه وبينام، منشان يفيق الصبح بكير ويرجع ع الفلاحة، هالرجل، بالمختصر، كافي الناس خيره وشره، لكن ربنا سبحانه وتعالى بعت له ولد عقله بيخضّ، وفوقها شَرَّاني، عمل أول مشكلة والتانية، بس هوي طلع إنسان عاقل، جاب إبنه وحطه في داره، وسكر عليه الباب.
الحاج مصطفى: كلامك يا حاج خيرو ع العين والراس، كمان أبو خلو ع العين والراس، لكن أنت عم تقول إنه أبو خلو حط ابنه "فريد" في الدار وسكر عليه الباب، لكان شلون أخده معه عَ الزيارة حتى عمل هالمشكلة مع ابن عمي الحاج برهو الله يرحمه؟
أبو خلو: الحاج مصطفى معه حق، أنا والله ما كنت بدي آخده، ولا كان بدي كل هالروحة ع مقام الشيخ عبد الحنان، بس متلما بيقولوا في الأمتال (كلمتين جنب الإدن سحر)، أنت بتعرف قلب الأم يا حاج مصطفى، على قد ما قالت لي أم خلو (يا رجّال خلينا ناخده معنا بركي الله بيشفيه وبيصير عاقل)، حن قلبي عليه، وقللت عقل، وأخدته معي. يا حاج خيرو أنت بعمرك سمعت إنه في واحد مجنون إذا زار قبر ولي صالح بيصير عاقل؟
الحاج خيرو: خيو أشو بيطلع من الحكي؟ أمر الله وصار، لا اعتراض على حكمته، ويا حاج مصطفى أنت كبير عيلة اخرطي، والناس بتحلق براسك، وأخونا أبو خلو جاي هلق حتى يستسمح منك ومن كل بيت "اخرطي"، وأنت أكيد بدك تسامحه، وتبوس شواربه.
وانتهت الحكاية بتبويس الشوارب، ورجع أبو خلو ع الدار مبسوط، لأنه بيعرف أن الاصطدام مع عيلة اخرطي راح تكون نتائجه فظيعة.
بعض الحاضرين - في سهرة الإمتاع والمؤانسة السابقة - استغربوا أن تتصادم عائلتان كبيرتان لسبب تافه، أو لأجل فتى مصروع مثل فريد.. ووقتها حكى لنا كمال حكاية تنين كانوا أصدقاء، واحد اسمه أبو عبدو الغربي، والثاني أبو سمير الفيلوني، أبو عبدو دعا أبو سمير لمشاركته في تناول أكلة رز وبامية، وأبو سمير قلل من شأن الرز والبامية وأشاد بالفريكة واللبنية، وأبو عبدو انزعج من صديقه، وصار يحكي معه بجفاء، ونشبت المعركة بينهم.
أم زاهر: أنا من وقتها لهلق عم فكر بهالقصة، وما عم تدخل بعقلي، معقولة تخانقوا منشان البامية؟
انتهت الحكاية بتبويس الشوارب، ورجع أبو خلو ع الدار مبسوط، لأنه بيعرف أن الاصطدام مع عيلة اخرطي راح تكون نتائجه فظيعة
كمال: طبعاً، منشان البامية.. المهم، الناس اللي شافوهم عم يتخانقوا، ركضوا لحتى يحجّزوا بيناتهم، لكن أبو عبدو القبلي كان مستنفر، وشال العصاية (البوكارة) وضرب فيها أبو سمير الفيلوني، لكن أبو سمير صدها بيده، وتمكن من تخليصه البوكارة، ودفشه دفشة خلاه يوقع ع الأرض، وخلال التعارك صاروا يتبادلوا المسبات (التحاشيك)، وفي هاي الأثناء الناس تجمعوا، والشباب من العيلتين عرفوا بالأمر، فركضوا، وكل واحد منهم كان ساحب عصاية، أو خشبة قبان، أو جاروف، أو سكينة قندرجية، وانخرطوا الكل في المشاجرة، وبلشت رقعة القتال تتسع، وصار في شباب من العيلتين يسقطوا ع الأرض، وبعد شوي أجوا الشرطة، ونزلوا بين المتشاجرين، وبلشوا يطلقوا النار في الهوا، لحتى المتشاجرين يخافوا ويتوقفوا عن القتال، ويبدو أن في حدا من الموجودين على صلة بالمستشفى الوطني، فطلب سيارة الإسعاف، والسيارة وصلت للمكان ونزلوا منها الممرضين، وصاروا يشيلوا الناس المصابين وياخدوهم ع المستشفى، واستنفر قسم الإسعاف في المستشفى، وبالأخير تم إحصاء الخسائر، فكان في شي عشرة مصابين بجروح، تنين منهم جراحهم خطيرة..
أبو محمد: حسبنا الله ونعم الوكيل. أشو هالقلة العقل هاي؟
كمال: وبعدما أسعفوهم، والشرطة حققوا معهم، أطلقوا سراحهم، وكل مجموعة شباب من عيلة الغربي، أو من عيلة الفيلوني، راحوا لعند الكبير تبعهم، حتى يعرفوا السبب اللي تشاجروا منشانه.
أبو ماهر: شو هالحكي؟ يعني تشاجروا وانصابوا وفي منهم ناس في حالة الخطر وما بيعرفوا ليش؟
كمال: طبعاً ما بيعرفوا. أصلاً في بلادنا عيب إذا الواحد شاف أقرباؤه عم يتقاتلوا مع ناس تانيين إنه يسأل ويستفسر. اللي بيعمل هيك بيضحكوا عليه، وبيقولوا له (لبينما حضرتك تسأل وتستفسر وتعرف ليش عم نتقاتل، وتعرف الحق على مين، بتكون القصة انتهت).
أم الجود: وعرفوا السبب في الأخير؟
كمال: نعم. أبو عبدو القبلي لما سألوه ولاده وولاد عمه عن سبب المشاجرة قال لهم:
- أبو سمير واحد ما بيستحي ولا بينعار، أنا كنت عم إعزمه على رز وبامية، وعواض ما يجي يشاركني الأكل صار يحكي مشكل وملون ع البامية. ولاك حتى ع الرز صار يحكي. مو عيب عليه؟!
الشباب الموجودين غلبهم الضحك، وابنه الكبير تشجع وقال له باستهزاء:
- إذا هيك ما معه حق، وبيستاهل ياكل قتلة هوي وولاده وولاد عمه. لسه أنا كنت متمني لو هالمشاجرة راح فيها كم قتيل. لأن البامية يا ياب هيي بنت عمنا، عرضنا، شرفنا.. والله اللي بيجيب سيرة البامية لازم نقتله وننحبس 15 سنة.. وفوق منها بيحكي ع الرز؟ صدقني لوما أنت تصديت له كان تطاول وحكى عالصنوبر واللوز والكزبرة!
(للسيرة تتمة)