المجنون فريد ابن أبو خلّو (10)
توصلنا، في السهرة الماضية، إلى أن أسرة "أبو خلو" كانت تعمل في قطاف الزيتون خلال شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول من كل سنة.. دعاهم الجار أبو نادر للعمل معه في قطاف الزيتون مقابل أجر جيد، فقبلوا، واضطروا لأن يصحبوا معهم الفتى المسطول المؤذي "فريد"، لئلا يبقى وحده في الدار، فيتعرض للأذى، ولا سيما أنه مسجون في غرفة خاصة.
خلال القطاف، قام صاحب كرم الزيتون "أبو نادر" وأسرته والعمال إلى الدبكة، فقد جرت العادة أن يطوف الطبالون والزمارون على الكروم في موسم القطاف، ليحصّلوا بعض الأعطيات. خلال ذلك لم ينتبه أحد إلى أن فريد لم يشارك في الدبكة.. وبعد انتهاء هذا الفاصل المنشط عاد الجميع إلى العمل، وصعد أبو نادر على السلم الخشبي الهرمي الذي يدعى "السَلَّاتة"، ليكمل سلت شجرة الزيتون، وحينما داس بقدمه على العارضة الثالثة انكسرت به، ووقع على الأرض، وسارع العمال إلى إنعاشه، وحمله ابنه نادر إلى المستشفى الوطني بالطريزينة المخصصة لنقل المنتجات.
هذا كله طبيعي، ولكن الأمر المدهش هو أن نادر جاء، في المساء، إلى دار أبو خليل، وطلب مقابلته، وعندما رآه قال له: يا عمي أبو خليل، نحنا بكرة رح نتابع حواش الزيتون، أمي ما راح تطلع معنا، راح تبقى في الدار منشان تدير بالها ع أبوي. بالنسبة إلكم إذا بتطلعوا معنا هادا الشي بيسرنا كتير، لكن بشرط: بتطلعوا بدون فريد!
أبو خلو اندهش، وطلب من نادر أن يدخل ويشرب كأساً من الشاي، عسى أن يَفهم منه سبب هذا الموقف الغريب، ولكن نادر كان على عجلة من أمره، فاعتذر، وغادر المكان. وفي هذه الحالة كان لا بد من استجواب فريد. اجتمعت الأسرة في غرفة الجلوس، وأثناء ذلك كان فريد جالساً على الأريكة المتطاولة بطريقة شديدة التهذيب، يجمع جسده الضخم على بعضه، ويشبك يديه على ركبتيه، ويحني رأسه إلى الأسفل.
قال أبو خلو: ولاك جحش، أشو عملت لما كنا في حواش الزيتون؟
فريد: ياب أنا ما عملت شي، أنت وأمي وإخوتي كلياتكم كنتوا موجودين. أنا كتير عاقل ياب.
وقف أبو خلو، وتقدم إلى حيث يرقد أبو نادر، أحنى رأسه وضرب رقبته بكفه، وقال: حقك علي يا صاحبي. وأنا رقبتي سَدَّادة
أبو خلو: عاقل؟ وعاقولة تورّمْ جْنَابك، لكان ليش بيت أبو نادر ما بدهم إياك تكون معنا في الحواش؟
فريد: معهم حق ياب. أنا لو كنت مكانهم بعمل هيك، لأني أنا طالع معكم مرافقة، يعني أبو نادر ما عم يدفع لك أجرة عني، ولما بيحطوا الأكل بقعد وباكل. في هيك حالة هني بيخسروا. وأنا ياب متلما بتعرف، باكل كتير، ولما الواحد بيكون في البرية بتنفتح نفسه وبياكل أكتر.
أبو خلو: ان شاء الله تاكل سليماني يهري معلاقك، إلهي ربي يموتك، أو يموتني أنا ويخلصني منك، يا الله روح انقلع ع النوم.
بعدما غادر فريد الغرفة، التفت أبو خلو إلى أم خلو وخليل وأحمد والبنات، وقال لهم: أنا عقلي رايح يملص من محله. قولوا لي لأشوف، لما كنا في الحواش، فريد عمل شي؟
أتاه الجواب بأنهم لم يلاحظوا ذلك. وقالت البنت الكبرى خديجة: بالعكس ياب، كان كتير هادي.
زفر أبو خلو زفرة تكنس بيدر، ووقف فجأة، وارتدى ثياب الخروج، وطلب من ولديه خليل وأحمد أن يلحقا به، وخرج الثلاثة من الدار.
عندما وصلنا في سهرة الإمتاع والمؤانسة إلى هنا، قال أبو جهاد: أنا بشوف إنه فريد كذاب، ماو معقول صاحب الرزق يقول لواحد متل أبو خليل ومعه سبع عمال قبضايات (لا تجيب ابنك الزغير معك منشان ما ياكل!). أصلاً في هيك مواسم الناس بيطبخوا أكل زيادة، وأي واحد بيمر فيهم بيعزموه ع الأكل وبيلحّوا عليه حتى ياكل.
أبو المراديس: أبو جهاد معه حق. منشان هيك أبو خلو ما صدق رواية فريد، وراح هوي وخليل وأحمد على دكان عدنان ربوع، اشتروا صندوق شوكولاته، وتابعوا طريقهم باتجاه بيت أبو نادر. وبعدما سلموا عليه، وتطمنوا على صحته، سأله أبو خليل عن السبب اللي خلاه يبعت هالرسالة مع إبنه. ابتسم أبو نادر وقال له بتهكم: ابنك فريد كتير آدمي، الله يكمله بشبابه.
أبو خلو: أكيد عم تمزح يا أبو نادر. الله يخليك احكي لي أيش صار، أحسن ما أروح اقتله وأحطه برقبتي.
تدخل الابن نادر، وحكى لأبو خلو وولديه ما حصل في كرم الزيتون، نقلاً عن عمته أم حسن التي لم تشارك في الدبكة لأنها تعاني من أوجاع في ظهرها، وهو أن فريد استغل الهوشة التي حصلت أثناء الدبكة، وتسلل إلى خلف شجرة الزيتون التي كان العمال يشتغلون في قطافها، وأخرج من جيبه سكينة قندرجية، وصار يحز العارضة الثالثة من السَلَّاتة المخصصة لأبو نادر، واستمر بحزّها حتى انقسمت إلى شعبتين، ونزل إلى الأسفل، تناول خيطاً من التي يخيطون بها الأكياس الملأى بالزيتون، وربط الشعبتين لئلا ينتبه أبو نادر إلى أنها مكسورة.. والعمة أم حسن لم تفهم لماذا قام فريد بهذا العمل، وعند انتهاء الدبكة عادت إلى عملها في (سَرْب الزيتون)، وفجأة سمعت صوت ارتطام شقيقها أبو نادر بالأرض، وبعد ذلك عرفت أن فريد كان قد صنع لأبو نادر نوعاً من الأفخاخ..
وقف أبو خلو، وتقدم إلى حيث يرقد أبو نادر، أحنى رأسه وضرب رقبته بكفه، وقال: حقك علي يا صاحبي. وأنا رقبتي سَدَّادة.
انفلت أبو نادر بالضحك، وقال لأبو خلو: أي حق إنته التاني؟ حط بالخرج. بقلك شغلة؟
أبو خلو: تفضل.
- هادا إبنك فريد بس يكبر وياخد البكالورية خليه يتطوع في الكلية الحربية، ويفرزوه عَ الجبهة، بلكي بقى مننتصر ع إسرائيل ومنخلص من هالحرب..
دهش أبو خلو وقال: أف. وشلون بقى بدنا ننتصر ع إسرائيل؟
أبو نادر: إذا صار فريد قائد جبهة بيعمل للأعداء كمين بيخليهم يوقعوا في الجورة، متل ما عمل معي!
(للسيرة بقية)