المثقف والحرب
من هو المثقف؟
أبدأ هنا من تعريف المفكر العربي، عزمي بشارة، للمثقف في كتابه "الثورة والقابلية للثورة" إذ قال هو "الذي يمارس دورا في الشأن العام... مستخدما معارفه الشاملة والعابرة للتخصصات ... ومن منطلق مواقف أخلاقية" (ص 109). إذن، ثمّة ثلاثة محدّدات لتعريف المثقف: الأوّل، ممارسة نشاط في الشأن العام، أي القضايا التي تخصّ الدولة والمجتمع ككل، سواء من سياسة وثقافة وغيرها. الأمر الثاني، أنّ هذا المثقف له معارف تتجاوز تخصّصه، فهو إلى جانب إتقانه لمجاله الفكري أو العلمي، يتجاوز تخصّصه إلى تخصّصات أخرى، مُكوِّنا بذلك رأس مال فكري متعدّد المشارب، يوظّفه في القضايا الكبرى بالنقد والمعالجة. الأمر الثالث، متعلّق بالأخلاق، فهذه المعارف المُستخدَمة في الشأن العام، هي ذات دافع أخلاقي يحرّك المثقف للخوض في النقاش العام من أجل الإنسان وإصلاح العقل والواقع.
المثقف إذن، ذو نشاط بارز في الفضاء العمومي، تنظيرًا ونقدًا ومُساءلة وحوارًا، وهو يتجاوز بذلك الأطر الحزبية الضيقة، والإيديولوجيا الفاعلة تكون بمثابة الخلفية لنشاطه، فهو مثقف ما بعد الأمة، أي مثقف كوني، ودفاعه عن قضايا الإنسان، ليس متعلّقًا بهذه الأمّة أو تلك إلاّ عرضًا، وما يشغله حقيقة هو الإنسان في مختلف تمظهراته، كما أنّ علاقته بالواقع هي علاقة جدلية، فهو يغيّره بقدر ما يغيّر الواقع فيه، أي الدفع بما هو موجود إلى ما يجب أن يوجد. وهو بهذا يخوض حربًا داخلية (إيجابية ورمزية) على بُنى وأسس ثقافته والثقافة الإنسانية ككل، كاشفًا عن كلّ ما هو رجعي وارتكاسي فيها، وكلّ ما تسبّب في خلق الأوضاع اللاإنسانية. فهو إذن، محارب من نوع خاص وأداته هي النقد الجذري وساحة معركته هي الفضاء العمومي، ويمكننا أن نطرح السؤال التالي: ما هي علاقة المثقف بالحرب؟
حرب المثقف هي حرب تقويض الأفكار التي قد تؤدي إلى الحرب بمعناها السلبي والأقصى
عندما تفشل السياسة كوسيلة لخوض الحروب بطريقة سلمية تنشأ الحرب، وإذا أردنا أن نفهم الحرب عن طريق تصوُّرها في حدّها الأقصى، أي كحرب إبادية تُخاض ضد شعب ما، كما يحدث في قطاع غزّة الآن، فيمكن أن نقول إنّ حرب المثقف هي حرب تقويض الأفكار التي قد تؤدّي إلى الحرب بمعناها السلبي والأقصى. وبهذا المعنى نقول إنّ أكبر ناقد للحرب هو المثقف، وهو يكتسب دلالته وأهميته من هذا النقد، فهو يخوض حربًا دائمة من نوع آخر، سواء كانت داخلية أو خارجية. وإذا عطّل هذا الفعل، فهو قد عطّل دلالته كمثقف، إنّ كلّ حرب هي حرب هووية، وكلّ شعب هو حصيلة هووية لحرب ما سابقة أو قادمة، كما قال فتحي المسكيني في كتابه "حروب المعنى" (ص 16)، إذ لا يمكن خوض الحرب ضد الآخر أو إبادته من دون تصوّر "نحن" عُليا نقية في مواجهة "همُ/ " أقل درجة تُمارَس عليهم الهيمنة والسيطرة. وبما أنّ المثقف كما أشرنا، هو ليس بمثقف في ثقافة ما إلا عَرَضًا، فهو يفكّر فيما وراء هوية قومية متخيّلة إلى هوية كونية، أي في الإنسان بعمومه (وكواجب أخلاقي يلزم به نفسه بغضّ النظر عن تصوّره لمعنى المثقف)، وبالتالي فإنّ المثقف هو ناقد جذري للحرب ولأداتها الكبرى أي، لكلّ ما هو هَووي.
في ظلّ الحرب الراهنة على غزّة، يمكن أن نلاحظ صمت عدد كبير من المثقفين العرب والغربيين وتجاهلهم لما يحدث، وإذا التزمنا بالتعريف الذي وضعناه أعلاه للمثقف، يمكن أن نجيب أنّ هذا الصمت ليس لمثقفين، وإنّما هو لمهنيين أو خبراء في مجالهم الفكري أو العلمي. ولكن من جهة أخرى، هناك من المثقفين من اعتاد التحدّث في قضايا الشأن العام، وصمت حول هذه القضية، فكيف يمكن أن نفسّر هذا الصمت؟
المثقف محارب من نوع خاص وأداته هي النقد الجذري وساحة معركته هي الفضاء العمومي
كإجابة أوّلية يمكن أن نقول إنّ هناك خللا في تصوّر مفهوم المثقف عند هؤلاء، وأنّه لم يترسخ بعد عندهم، خاصة بعد نهاية المثقف اليساري أو المثقف العضوي، وبالتالي قد وجد المثقفين أنفسهم بلا إيديولوجيا أو قضية كبرى يناضلون من أجلها، مما حوّلهم إلى مجرّد أكاديميين أو مهنيين يعتكفون على مجالات تخصّصهم بالدراسة والبحث، وبالتالي انقطع اتصالهم بالواقع وقضاياه.
إنّ سياقنا العربي لا يزال يعج بمشاكل وقضايا يمكن للمثقف التحدّث والدفاع عنها، ومنذ نهاية المثقف المؤدلج انتقلنا من القضايا الهووية والدولة/ الأمة إلى القضايا الكونية في عصر العولمة وما بعد الدولة، أي قضية الإنسان وحقوقه والديمقراطية والحرية و...، وهذا التعطّل في موقف المثقفين هو تعطّل هووي، بمعنى بما أنّه لم تعد للقضايا الهووية من جدوى صرنا بلا قضايا، وهذا موقف خطير يدل على عدم القدرة على طرح تصوّر آخر للمثقف ومهامه.
لا يزال المثقف يخوض حربًا في كلّ ثقافة ويستمد دلالته منها، حربًا داخلية ضد ثقافته بأشكالها الارتكاسية، وحربًا خارجية ضد الحروب العسكرية والسياسية ومنطق السيطرة والهيمنة والإبادة والإقصاء، وهو في هذا يستمد شرعية قضيته من الواجب الأخلاقي، وما يفرضه على الإنسان. كما أنّ المثقف الراهن، كما كشفت الحرب على غزّة، يمرّ بأزمة ما، وهي أزمة أخلاقية، وأزمة تصوّر، وأزمة أدوات، فهو إما متخوِّف من التحدّث حول قضايا الشأن العام أو أنّه يفتقد الأدوات اللازمة لفهم ما يحدث، أو أنّ جهازه الأخلاقي لم يعد قادرًا على إعطائه رؤية واضحة عما هو أخلاقي وغير أخلاقي.