المتبرع بدمه

06 يناير 2017
+ الخط -

هذا الرجل النحيف الذي لا تأخذونه بالاعتبار، وتقولون، ساخرين، إن ميزان ربيعة الخاص بالدجاج يمكن أن يزنه، رجل ذو شأن واعتبار، ولديه من العملة والممتلكات والأرصدة ما تقف، لمجرد تخيله، شعورُ رؤوسكم.

وأما النحافة فتكاد أن تكون عاهة فطرية مستعصية على الحل، فهو لا يأكل إلا المواد التي من شأنها زيادة الوزن، دهون ونشويات وسكريات، ويتصل دائماً بمعارفه من الأطباء، ويشكو لهم حالته، فينصحونه بقلة الحركة والجلوس المتواصل كأنه (قرقة الدجاج) الجالسة لتحتضن البيوض، فينفذ التعليمات، ويحكي لزوجته وأبنائه، أثناء جلوسه الطويل، عن بعض معارفه الذين يسمنون على نحو ملحوظ، يومياً، وكأنك تنفخهم على الكهرباء عند مصلح العجلات والدواليب، وكيف أن واحداً منهم وزن الفروج قبل أن يأكله، ووزن نفسه قبل الطعام وبعد الطعام، فوجد أن وزنه قد ازداد أكثر من وزن الفروج الذي التهمه!!

وعندما وقعت الحرب ازداد نحافة، فقد خاف على مصالحه الكثيرة المنتشرة هنا وهناك من أن يطاولها القصف أو التخريب زاعماً أنهم يناطحون بالبلاد قوى عاتية لا قبل لنا بها، ثم وجد الكفة تميل لصالح الناس الوطنيين، فمال معهم، لأنهم، في المحصلة، كما قال لنفسه، قاعدون في خلقتنا، فأين المفر؟؟ وأصبح يجاملهم ويبدي استعداده للدفاع عن الوطن بالغالي والنفيس، وعندما تلقف منه أحدُهم هذا التصريح، وطلب منه التبرع للمجهود الحربي ببعض الملايين الطائفة على قلبه كالقش بكى، وقال:

- أية ملايين يا حاجّ؟ إنني مضروب بحجر كبير، وكل الناس يصدقون الإشاعات التي يطلقها علي أعداء الوطن!

ثم وقف، وكور صدره، وأنبق عظامه، وقال للرجل:

- بربك هذا موديل رجل يمتلك الملايين؟

فانفض الرجل عنه مبربراً بالشتائم، متوعداً إياه بفضيحة ذات جلاجل، فما كان منه إلا أن تبعه، واستوقفه، وقال:

- سمعت أن جرحى كثيرين يعانون من نقص الدم في المستشفيات، وأنا أرى من واجبي التبرع لهم بدمي، وأظن أن الدم أغلى من المال والولد.


فلما شهقت زوجته، في ما بعد، وقال له:

- أنت الذي لا يوجد بوجهك دم، كيف تتبرع بالدم؟

ضحك وقال: الحكي بيننا، أحد معارفي من الأطباء، نصحني بالتبرع بالدم على أنه وسيلة لتحقيق شيء من العافية.

ولكنه، حقيقة، خاف عندما سطحوه على المنضدة، وفكر بكلام زوجته، وسرعان ما انخطف لونه وغامت عيناه، وعاد لا يميز ما أمامه من أشياء.

لاحظ الممرض ذلك فصرخ، فتجمع حوله الأطباء وأسعفوه.. وبعد التداول في ما بينهم وجدوا أنه بحاجة إلى نقل الدم إليه. ففعلوا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مجموعة "حادث مرور" 2002

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...