الكلمة الطيبة
الكلمة هي أصغر وحدة تُبنى عليها اللغة، والكلام هو معجزة الإنسان، لأنّه خاص به فقط. وعن طريق هذه الخاصية، يمكن للبشر التحاور والنقاش، وهي الأصل في التعاون الاجتماعي.
للكلمات المنطوقة أثر كبير على مشاعر وأحاسيس الناس، لذلك، فإنّ فعل انتقاء الكلام هو الموضوع الأساس عند الكلّ، والكلمات التي نستخدمها في حياتنا إنّما تدل على الفكر وتكشف لنا مكامن الافكار المخبّأة. فلماذا نخشى الكلمات إذن؟ وهل ثمّة كلمات جارحة وأخرى طيبة؟ وكيف ينعكس ذلك على سلوكنا، دوافعنا، إدراكنا واتجاهاتنا؟ وهل الروتين اليومي لاستخدام الكلمات يتجاهل المفهوم الحقيقي للكلام؟ وإلى أيّ مدى يُمكن أن يؤثّر عليها العالم المتواصل تقنياً؟
لقد مكَنَتْنا طبيعتنا البشرية والاجتماعية من القدرة على التكيّف والتأقلم والتعايش والتواصل فيما بيننا، عن طريق الكلمات التي هي جسر العبور إلى الإدراك والتفاهم والرقي وبناء الحضارات.
مجتمعنا مشغول باتخاذ القرارات بشأن الرعاية الصحية والقوانين والسياسات العامة والتعليم، متجاهلاً أنّ للكلمة تأثير فعال على طبيعة علاقاتنا مع بني جنسنا، ما يجعل عملية التواصل رقمية ورمزية بامتياز، وخاصة أنّ وسائل التواصل الاجتماعي وضعت بين يدي الانسان آلات تتبنى النص التنبؤي والرموز والتسجيلات الصوتية... في وقت أصبح فيه الاتصال متاحاً في كلّ الأماكن ومتوّفراً لدى الجميع، إلى درجة سوء الاستخدام أحياناً.
كيفية تعاملنا مع الآخرين قد لا تبدو مبرّرة للبعض لكنّها تحمل من المسؤولية ما ندفع ثمنه لاحقاً. فأفعالنا وأقوالنا لها عواقب تؤثر سلباً وإيجاباً على ذهنية ونفسية الآخرين. ولأنّنا نتمتع بالحرية في التعبير، علينا الابتعاد عن العنف اللفظي، لأنه يخدش الروح والعقل والقلب، وعلينا انتقاء كلماتنا بحذر لأنّها بطاقة عبور للقلب والجوارح والعقول والنفس، وعليها تُبنى الآمال وبها تُحقّق الغايات والمودة الاجتماعية، ولها أثر فعال على سلوك الناس واتخاذ القرارات وتغيير المسارات... إنها جواز سفر إلى الاستشفاء من عطب الروح، تضمّد جراح القلب وتُحيي القيم الإيجابية، عالية الطاقة.
علينا انتقاء كلماتنا بحذر لأنّها بطاقة عبور إلى القلب والجوارح والعقول والنفس
وكأنّنا نمنح أحدهم هدية غلافها السعادة وقلبها الأمل. وبالتالي، ترفع حجم توّقعاتنا وتوّسع آفاق إدراكنا. أمّا عن الروتين اليومي لاستخدامها، فيندرج تحت مسارين، أنها تصبح عادة جميلة وطريق حياة. فكما نختار الملابس الأنيقة، علينا اختيار وانتقاء كلماتنا لأنّها تبني قصوراً من الآمال وتحثّ على الإنتاج وتنمي وتغذي العقل، وتهدم عندما تكون لاذعة وقاسية ونابية، لتأثيرها الفعال على الدماغ والحالة النفسية والأفكار، إذ بمقدورها التأثير بشكل مأساوي على جوارحنا ومنبع أحاسيسنا ومشاعرنا وتغيير سلوكنا، كما تقف حاجزاً أمام أحلامنا وطموحاتنا. فكما هي جسر للطمأنينة، هي أيضاً قد تدمر ما يصبو إليه الإنسان فتفقده الثقة بنفسه أولا، وتشعره بعجزه وفشله وانهزامه وتحيط بكلّ مقوّمات القوة الكامنة لديه ثانيا. فالكلمة سلاح قد يؤذي من حولنا ويفقده طاقته المتجدّدة، وللأسف هناك من يستخدم هذا السلاح دون الانتباه إلى نتائجه على البشرية جمعاء.
ولقد شبّه الله تعالى الكلمة بالشجرة: "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار" (سورة إبراهيم. الآية 24).
والقول الطيب أيضاً هداية لقوله تعالى "وَهُدوا إلى الطيب من القول وَهُدوا إلى صراط الحميد" (سورة الحج آية: 24).
إذاً، ثمّة إشكالية كبيرة تُعنى بها البشرية جمعاء، وهي إشكالية مفهوم الكلمة. كيف يمكن اقتناص المعنى المراد منها؟ وهل يمكن تيسيرها إلى ما فيه إصلاح المجتمع؟ وكيف يمكن للمتكلم أن يروم إلى الهدف الذي يريد إيصاله إلى السامع أو القارئ؟