الكتابة والنص: من يتحدث؟
يعرف العالم المعاصر تحولات بارزة وديناميكيات متعددة، مما يحدث تغيرات في حقول كثيرة من الحياة الاجتماعية، مما أفرز اهتماما معرفيا بهذه التغيرات في حقول كثيرة شملت حتى الإنتاج الفني والأدبي.
فمن المفترض أن تتأثر الكتابة الأدبية ويتسرب ذلك إلى جسد الإبداع، بحيث نكون أمام مدونة أدبية مرتبطة بالتحولات وحاملة لهموم اجتماعية، والتي قد تعبر عن نفسها بالكتابة وفق مقتضيات التخييل الجمالية، هذه التجربة الجمالية التي يلاحظ أنها تتجه نحو أن تستخلص نفسها من المعيش واليومي وتهجس به، مما يجعل من إنتاج خطاب يولي البعد الاجتماعي للعمل الفني عموما والأدبي خصوصا ضرورة أبستمولوجية.
فالأدب بوصفه مؤسسة جمالية لا ينتج أجناساً فحسب بل يراكم مضمونا معرفيا بالمجتمع، ما يخرج الأدب من طابعه الذاتي وعالمه المثالي المحصور في ذاته إلى محاولة اللقاء بما هو موضوعي أي بالمجتمع. الأدب ليس نصا مقذوفا في الفراغ، بل هو كما يعتبره، بيير ف زيما، نص متخيل، ورد فعل تناصي على اللهج الاجتماعي وعلى خطابات وضعية اجتماعية لسانية. أما الكاتب والكتابة فيتكونان باعتبارهما ذاتا تعتمد موقفا خاصا حيال الخطابات التي تحيط بها والتي تنطق باسم مصالح جماعية من حيث كونها تحقيقات للهجات اجتماعية. وهذا ما يعطينا إشارات للتفكير في جدلية "سوسيولوجيا أدبيَّة" تسعى لفهم الأدب بأدوات التحليل الاجتماعي والثقافي، "وأدب سوسيولوجي"، إن جاز هذا التعبير، يكون الأدب في إطاره رؤية ومعرفة بالمجتمع، ومدخلاً لفهمه ومعتركاً لمفارقاته وآلامه وآماله ومصورا لهويته، أو ربما كتابة تؤسس مجتمعاً.
معلوم أن كل خطاب أو نص يعبر عن مواقف أو مصالح فريق اجتماعي ما. إننا نعني هنا الأيديولوجيا، فهل يمكن تصور أدب خال من الأيديولوجيا أم إن الأيديولوجيا من صميم الأدب ما دام منتجا ذاتيا خالصاً؟ أم إن أيديولوجيا الأدب هي المتعة والتخييل أي الفن لذاته بمعزل عن أية رهانات ذرائعية نضالية أو إصلاحية؟
يصعب الإمساك بمسار التفكير ونحن نتحدث عن وضعية الأدب في علاقته بالمجتمع، إذ سرعان ما سيقودنا الأمر إلى الحديث عن الكتابة بصفة عامة، عن جدوى الكتابة، عن العناصر الموجهة لكل الكتابة. كما سيؤثر الموضوع على كتابتنا ويصبغه بطابعه الخاص بحيث يصير حديثنا عن الأدب غير متيسر إلا بلغة أدبية.
يصعب الإمساك بمسار التفكير ونحن نتحدث عن وضعية الأدب في علاقته بالمجتمع، إذ سرعان ما سيقودنا الأمر إلى الحديث عن الكتابة بصفة عامة، عن جدوى الكتابة، عن العناصر الموجهة لكل الكتابة
إن التفكير النظري في الأدب لا يحقق عمقه إلا بأدوات الأدب نفسه، ولذلك نجد ما قاله الأدباء حول حرفتهم أو في صنعتهم باعتبارهم فاعلين ومعايشين للكتابة بشكل مباشر، يتضمن معرفة أعمق وأكثر ضياء من حديث النقاد اللغويين أو السوسيولوجيين والسيكولوجيين. ولذلك وعكس المواقف التي تنتقد ما يسمى حديث الكتاب والأدباء عن نصوصهم باعتباره قاتلاً للنصوص إيمانا بموقف "موت المؤلف"، نرى أنه على العكس تماماً أن حديث الأدباء عن نصوصهم ظاهرة صحية بامتياز، بحيث إنهم يكشفون عما لا يقوله النص، أي تلك الدوافع ليس فقط السيكولوجية التي أنتجت النص، وإنما الموضوعية والاجتماعية.
إن الأدب موضوعي بشكل مفرط بعيداً عن كل نزعة تختزل الشعر والرواية والقصة وغيرها في مجرد خواطر انفعالية أو نزعة ذاتية وجدانية. إنه تشريح لمجتمع قبل أن يكون عرضا لذات فردية. إن وراء العديد من النصوص بما فيها السير الذاتية هموماً غير ذاتية، إنها حاملة لآمال اجتماعية، قد لا تكون لها علاقة بوضعية الكاتب نفسه. إذ من العسير تمثل كتابة خارج نطاق من الصراع، سواء كان هذا الصراع اجتماعيا أو حضارياً. ولهذا فالنص الأدبي مخادع ومخاتل يحاول دائما أن يخفي الجماعي في الذاتي أو العكس في علاقة تشابك تدمج ذات الكاتب مع موضوعات الكتابة، ولذلك تأتي الحاجة من جديد إلى إعادة بعث المؤلف.
من جهة أخرى، تنزه بعض التصورات الكتابة، والكتابة الأدبية خاصة، من أية التزامات اجتماعية وتعتبرها طريقة جمالية لا لعرض الحياة والمجتمع وإنما لتجاوزه وتجاهله. ولم نجد خير شاهد على هذا خيرا مما كتبه الأديب البرتغالي فرناندو بيسوا مؤلفه "كتاب اللاطمأنينة" حيث يقول:
"الكتابة هي النسيان، الأدب هو الطريقة الأكثر إمتاعا لتجاهل الحياة. الموسيقى تهدهد، الفنون البصرية تنشط، الفنون الحية (مثل الرقص والتمثيل) تسلي. الموسيقى تنأى بنا عن الحياة لأنها تجعل منها حلما، الفنون البصرية، بالرغم من كل شيء، لا تبتعد عن الحياة، لأن بعضها يستخدم صيغا مرئية ومن ثم حيوية، بعض آخر يحيا من ينبوع الحياة الإنسانية نفسه، لا أدري إن كان هذا هو حال الأدب. إن رواية ما هي حكاية ما لم يحدث أبدا، كما أن المسرحية هي رواية معروضة بدون سرد. إن قصيدة ما هي تعبير عن أفكار أو مشاعر في لغة لا يستعملها أحد، إذ لا أحد يتكلم شعراً".
فهل يمكن الحديث فعلاً عن كتابة دون رهان اجتماعي، كتابة تكتب نفسها لا لإرادة اجتماعية تحقق نفسها في النص، وإنما إرادة ذاتية لا تقول نفسها باللغة فقط، بل هي وسيلة في يد اللغة، حيث تصير اللغة هي التي تقولنا وتكتبنا معلنة موت المؤلف وموت المجتمع وموت النص ذاته، فلا يبقى إلا حياة اللغة.