القتل كوسيلة للتسلية

26 ديسمبر 2023
+ الخط -

في كتابها "ما بعد الإنسان" تقف الكاتبة روزي بريدوتي وقفة متأنية مع أحد أهم المظاهر التي تطبع هذا الفكر، وهو قضية القتل، حيث ترى أن من أحد السمات التي تميز هذا النمط من الفكر، هو استرخاص روح الإنسان، كما أن الوسائل التي تيسر هذا الأمر أصبحت تقريباً في متناول كل شخص، تسرد الكاتبة قصة قتل القذافي بطائرة ذاتية القيادة، وكأن مسألة القتل قد تحولت في الوقت الراهن إلى مسألة تسلية، ليست القصة أعلاه هي الوحيدة، بل يمكن سرد الكثير من القصص التي تثبت هذا الأمر، والخلاصة أننا بينما نعتقد أننا نتطور لنحمي الإنسان، فإننا ربما نتطور لنقضي على نوع الإنسان، أو على الأقل لنبيد أصنافاً منه، نرى أنها لا تلائم العالم الذي يحلم به البعض.

ما ذكرني بالكتاب والقصة أعلاه، هو مقطع فيديو مر أمامي، لمجندة إسرائيلية صغيرة السن، وهي تتباهى بكونها قتلت فلسطينيين وتتمنى لو تقتل المزيد، مما يعني أنها تعتقد أن مسألة القتل لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة للتسلية والترفيه عن النفس، كيف يمكن أن يعيش الإنسان في مأمن مع هذا النمط من التفكير، ثم إذا قتلت اليوم فلسطينياً، ما المانع من أن تقتل غداً غيره؟ ثم كيف تتحول الحرب إلى مسألة للتسلية وإشباع الغريزة، بدل استتباب الأمن؟

في السياق أعلاه أتذكر أيضاً كيف أن طائرة ذاتية القيادة تسوق محارباً على الجبهة في الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا، ينساق لها ويتبع أوامرها، ماذا لو وقع عطل وأطلقت النار بالغلط على سبيل المثال، هل الإنسان في مأمن من التقنية التي يصنعها، أم ترى أنه يضع حتفاً لحياته بنفسه ولا يدري ذلك.

فرويد حين وضع نظريته المشهورة في التحليل النفسي، كان قد ذكر أن الهو، والذي هو أحد المكونات الأساسية للنظرية، هو ذو بعد بيولوجي، وهو عبارة عن غرائز، غير أن هذه الغرائز جميعها تتحكم فيها غريزة واحدة وهي غريزة الحياة، والتي هي غريزة الجنس بطبيعة الحال.

لكن الملفت هو أنه سيضطر لتعديل نظريته وذلك بعدما شهد الدمار الذي ألحقته الحرب العالمية الأولى بأوروبا، فاضطر إلى أن يضيف إلى غريزة الحياة غريزة الموت. لكن للأسف من روّج لنظريته ركز على الأمر الأول، أي أن الهو يتكون من غريزة الحياة، وأغفل الحديث عن غريزة الموت، والتي ربما تكون هي الأقوى.

فرويد وكما يجمع الكثيرون على أنه كان فيلسوفاً أكثر منه عالماً، فإنه في الحقيقة لم يعد في نظريته عن أن لخص أوجه الفلسفات التي سبقته

هذا الأمر طبعاً يقودنا إلى صراع قديم، وأزلي أيضاً، وهو صراع الخير والشر، إذ إنه تجسد في كل حضارة على كيفية معينة، لكن المهم ربما هو كيف أن كل حضارة كانت تعلي من أحدهما أو تنقص من الآخر، وكل حضارة بطبيعة الحال تريد أن تستنقص من الأخرى تريد أن تجعل منها وكأنها حضارة عدمية تدعو للدمار والموت، أو أنها حضارة الشر، بينما هي تريد أن تُعلي من قيمة الخير والفضيلة، هذا الأمر ينطبق على الدول، والأفراد، والفلسفات على حد سواء، مما يعني أنه يصعب الحكم على حضارة كاملة بعينها أنها كانت عدمية، لكن إبراز أوجه الشر فيها لا يعني أنها حضارة شر.

فرويد وكما يجمع الكثيرون على أنه كان فيلسوفاً أكثر منه عالماً، فإنه في الحقيقة لم يعد في نظريته عن أن لخص أوجه الفلسفات التي سبقته، وكما يبدو جلياً فإنه كان طوباوياً متفائلاً في بدايته، قبل أن يصدم بواقع لم يكن يتخيله، وما ذلك إلا نتاج للتطور التي عرفته البشرية آنذاك، بله الآن، إذ إن الإنسان ما إن استغنى حتى طغى، وبذلك فتفاؤل فرويد لم يدم طويلاً، غير أن تلك المأساة ربما ستنسى أو سيعتقد البعض أنها نسيت، لكن هل حقاً تحقق ذلك.

إذا ما نظرنا إلى ما يجري الآن، ألم يكن نتاجاً لتلكم الأزمنة، إذا ما تتبعنا تأثير الفراشة بطبيعة الحال، لنسأل سؤالاً الآن، هل نحن كإنسانية جمعاء ماضون في الطريق الصحيح؟ ألسنا قد أخطأنا الطريق؟ بمعنى آخر هل نحن الآن نخدم طرف الخير أم الشر؟ هل هذا التقدم الذي نعيشه هو في صالحنا أم أننا ماضونا إلى نهايتنا، ونحفر قبورنا بأيدينا؟

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".