الفتى نبيه مجنون رسمي
وكانت المرأة تلد، أو كما كانوا يقولون "تبظُّ"، عدداً من الأولاد يتراوح بين 8 و 12 ولداً، والأب لا يهتم لمن يعيش منهم، أو مَن يعض على لسانه ويموت، فقد كان الطفل ينفخها إذا سخن أو برد أو عطس أو ضرط أو اصفرّ أو ازرقّ.
وإذا سئل الأب عن تعليم الأحياء من أولاده فغالباً ما كان يُحرجه هذا السؤال، لأنه في الأساس لا يشتري تعليمهم بـ"نكلة"؛ فالصبي إذا لم يتعلم ينزل مع أبيه إلى الدكان أو إلى السوق، قبل أن يخط شارباه ويصبح صوته مثل صوت جاروشة البرغل، والبنت تتعلم الخياطة أو التطريز أو شغل "الكاناويشا"، قبل أن تذهب إلى قبرها الدنيوي، أي: بيت زوجها! وما هي إلا مدة وجيزة حتى تترك مهنتها وتتفرغ للواع ويع والفك والتحفيض والغسيل والجلي والطبخ والنفخ!
وكانت السيدة أم أحمد، والدة التلميذ غير النبيه المسمى "نبيه"، قد ولدت أربعة عشر بطناً، سَلِمَ لها منهم خمسةُ صبيان وأربعُ بنات، عدا عن التسقيط أي: الإجهاضات.
وبعد أن كسرت الدف وبطلت الرقص "كناية عن إقلاعها عن الحمل والولادة" فوجئت، وهي في الرابعة والأربعين من عمرها، بأنها حامل، وأثناء الولادة كاد الطفل الوليد "نبيه" أن يودي بحياتها، نظراً لضخامة جسمه، وبالأخص رأسه الشبيه بـ "قفة الصوالة"! وقد أدلى أحد أطباء ذلك الزمان برأيه في هذه المسألة، فقال:
- إن حمل المرأة فوق الأربعين يرفع نسبة الاحتمال بأن يأتي الولد مصاباً بآفة دماغية تجعله يعيش حياته وهو معتوه.
طوال الطريق بين البيت والمدرسة لم يدخل لسان أبي أحمد إلى حلقه وهو يبسمل ويحوقل ويلوم زوجته- غيابياً- قائلاً للآذن أبي أيوب، وهو مستمعه الوحيد في تلك الهنيهة، إن الرجل الذي يسمع كلام امرأته هو واحد من ثلاثة: إما أنه مجنون "رسمي" يمكن إدخاله إلى مستشفى الدويرينه شرقي حلب من دون تقديم استدعاء "عرضحال"، أو أنه مجنون ولم ينتبه لجنونه أحد ومُعَرَّض في كل لحظة لأن تأتيه دورية الشرطة وتلقي القبض عليه وتأخذه إلى الدويرينه! أو أن جنونه ما يزال في مرحلة "التنقير"، أي أنه يشبه الفواكه الباكورية التي "تنقّر"، أي تُنضج في البداية ثمرتين أو ثلاثاً في اليوم، ثم "يهجم" الموسم، بعد مرور شهر أو أقل من شهر!
دهش أبو أيوب من هذه السحبة الطويلة، وقال لأبي أحمد:
- صحيح أن إبنك نبيه ولد سرسري، وتعبان، وغليظ، وقليل ذوق، ويجعل الإنسان يتنازل عن ثيابه، ويخرج من جلده، ولكنني لم أفهم السبب الذي يجعلك تحكي على المسكينة أختنا أم أحمد هكذا. أيش ذنبها هي؟
فقال أبو أحمد باندفاع:
- هي التي لعبت بعقلي مثلما يلعب الجَدي بعقل التيس، وجعلتني أقيد "نبيه" في المدرسة! يا رجل! أنا عندي خمسة ولاد كل واحد منهم يفتح العين من العمى، وما تركتُ أحداً منهم يعبر مجرد عبور قدام باب المدرسة، أصلاً أنا لا أطيق العلم ولا أطيق المدارس، بشرفك، هل يوجد رجل عاقل يقيد ولداً مهبولاً في المدرسة غيري أنا؟! الله وكيلك يا أبو أيوب ابني نبيه مجنون رسمي!
---------------------------
سيرة مسلسلة ــ يتبع