الـ"لا" الثانية: الإخلاص للكارثة والجرأة على اليأس
في كتابه "كيف نفكّر في الكارثة؟"، يرى الفيلسوف الفرنسي جان بيير دوبوي، الذي يُلقَّب بفيلسوف الكوارث الطبيعية والسياسية، الكارثة بوصفها حَدَثًا ينهي مسرحية ما ويغيّر من معناها في اللحظة الأخيرة، ويتحدث عن عودة "التراجيدي" إلى حياتنا، ويُشير: "كلّ من يتمنى أن يمنع حدوث الكارثة يجب أن يُصدِّق أولًا باحتمالية حدوثها".
أبدأ تدوينتي الأولى هنا بالإشارة إلى دوبوي بهدف التشجيع على قراءة أعمال هذا الفيلسوف المميّز، وبهدف طرح سؤال: لماذا لا نُصدِّق بالكوارث؟ كيف نختار ما نُصدِّق به؟
فلاسفة كثر تناولوا الكوارث السياسية والطبيعية، الثورات والزلازل والبراكين والأوبئة، وقد تناولوها بذكاء بمعزل عن ثنائية الطبيعة/ السياسة والشرّ الطبيعي/ الشرّ السياسي. فلم يعد ممكناً الحديث اليوم عن سياسة تخلو من طبيعة أو طبيعة تخلو من سياسة. ولا أعرف كيف يمكننا أن نتحدث عن أي كارثة طبيعية أو سياسية في العالم اليوم من دون ذكر الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، والتطرّق إلى فلسفة "الحَدَثْ" لديهما.
على الرغم من اختلاف فلسفتيهما جذريًا، يتشابه الفيلسوفان بدرجة ما في رؤيتهما إلى الحَدَث، إذ يريان أنّ الأحداث الكبرى في التاريخ لا تكتسب أهميتها من شدّتها أو من حجم الخسائر البشرية والمادية التي تترتب عليها، بل يتعيَّن الحَدَث بقدرته على إحداث تمزِّق وقطيعة في تدفق التاريخ، في إحداث تمزّق في الذات التي شهدتْ الحَدَث، ما ينتج ذاتًا جديدة (ذات ما بعد الحَدَث) تختلف تمامًا عن تلك القديمة (ذات ما قبل الحَدَث). وهذا التمزّق في التاريخ والذات هو ما يُفخِّم الحادثة ويرقّيها إلى منزلة الحَدَث. قد يكون الحَدَث هنا سياسيًا أو شخصيًا أو طبيعيًا، فالحب حَدَث، الثورة حَدَث، الموت حَدَث، والزلزال أيضًا حَدَث.
كأن ذاتًا سورية جديدة قد بزغت وراحت تُتأتِئ بلغة جديدة وتحبو في أفق جديد، وكأن ذاتًا سورية نتجت عن صدمة الحَدَث
سمعنا في الأيام المؤلمة والعصيبة الماضية مَن يقول: "الزلزال كان أصعب من كل القتل والقصف والتهجير في سنوات سورية الأخيرة". وسمعنا أيضًا مَن يقول: "على الرغم من الألم، تبقى قسوة الزلزال أرحم من طغيان السياسة". فهل نحن أمام منافسة أيديولوجية غير مباشرة بين الذين يهاجمون الطبيعة للتخفيف من حدّة الواقع السياسي والذين يهاجمون السياسة للتخفيف من وقع الكارثة الطبيعية؟ هذه المقارنة غير مجدية هنا، فكلّ مقارنة بين الحدث السياسي والحدث الطبيعي مصيرها الفشل. وإن كان لا بُدَّ من مقارنة، فهي ليست في الحَدَث نفسه، بل في الذات نفسها، الذات السورية قبل الحَدَث وبعده. تلك الذات التي أصابها التمزّق نتيجة الزلزال. هذه الالتفاتة إلى الذات في تفاعلها مع الحَدَث حاسمة لفهم أبعاده. ولا معنى للحديث عن الزلزال بمعزل عن الذات التي عاشته وشهدته، والسياسات التي حدث في ظلّها. وهنا أعتقد أننا شهدنا جميعًا، في ظلّ هذه الكارثة المؤلمة التي هزّتنا من الأعماق، تفاعلًا سوريًّا خاصًا مع هذا الحدث الطبيعي-السياسي، وكأن ذاتًا سورية جديدة قد بزغت وراحت تُتأتِئ بلغة جديدة وتحبو في أفق جديد، وكأن ذاتًا سورية نتجت عن صدمة الحَدَثْ، وتكشّفت ملامحها في تضامن اجتماعي شامل لم يسبق له مثيل، في توحّد على المساعدة والإغاثة والإنقاذ، في حملات للتبرع ومجموعات للتطوّع وانفتاح كامل على الآخر، في صرخة "لا" جديدة.
تحدَّث الجميع عن هذه الذات السورية الجديدة، فهل الجدّة في الذات السورية ضرب من ضروب الصدفة، أم حماسة مؤقتة ليس إلا؟ وهل يمكن أن يكون الزلزال السوري حدثًا ممزِّقًا لتدفق التاريخ السوري؟ هل يمكن أن يكون الزلزال السوري حدثًا منجِبًا لذات سوريّة جديدة؟ ليست الإجابة سهلة أو مباشرة بالتأكيد. يبقى الأمر متوّقفًا على عوامل كثيرة. يؤكِّد جيجيك أنّ أهمية الحَدَث تنبع من قدرته على تمزيق العلاقات الثابتة في النظام الرمزي (الأيديولوجيات السياسية والدينية والطائفية والقومية وغيرها) لدى الذات، بحيث يفضح الحَدَث ما كان سابقًا غير قابل للإدراك، ويُحدِث اضطرابًا في الوضع الراهن، فيتيح للذات أن تُدرك الحقيقة التي لم تكن قادرة على رؤيتها سابقًا.
أهم ما تحرَّرت منه الذات السورية في الأيام القليلة والعصيبة الماضية هو الآمال والوعود الزائفة
يقول جيجيك: "أولًا، في الكوارث الطبيعية مثل الزلزال وأمواج التسونامي [...] يكون هناك عنف مادي خارجي. ثم يحصل التدمير "اللاعقلاني" (فقد المعنى) للبنية التحتية لواقعنا الداخلي [...] وأخيرًا، هناك الآثار المدمّرة للعنف الرمزي الاجتماعي. تكون ذات ما بعد الصدمة ضحية نجت من موتها الخاص. ذات جديدة تبزغ. ذات تنجو من الموت. ليست هناك استمرارية بين ذات ما بعد الصدمة وهويتها القديمة."
تتحرَّر ذات ما بعد الصدمة بصورة تلقائية وعفوية من القيود الرمزية (من الأيديولوجيات بأشكالها المختلفة) التي شكّلت هويتها فيها. لكن أهم ما تتحرَّر منه الذات، وربما أهم ما تحرَّرت منه الذات السورية في الأيام القليلة والعصيبة الماضية هو الآمال والوعود الزائفة. هذا التحرُّر من الأمل، الذي كان معلّقًا على جهة سياسية أو تدخّل أو تغيير ما، هو تحديدًا ما أتاح للسوريين ممكنًا جديدًا خارج الممكنات المتاحة. الجدّة في الذات السورية هنا ليست في رفض الواقع السياسي، فهذا الرفض وقع منذ زمن، وهذه الـ "لا" الأولى مُحقَّقة. الجدّة هنا هي في الرفض الثاني، الـ "لا" الثانية، أي رفض الواقع السياسي ورفض الأمل الزائف معه. تركّز فلسفة الحَدَث لدى جيجيك على بزوغ الذات الثانية بعد الحَدَث (الزلزال)، وترى أنّ الذاتية الحقّة تبدأ من هنا، لا تبدأ من الذات الأولى، أو الرفض الأول. فالذات الأولى التي تسيَّست لأول مرّة، وثارت ورفضت الواقع السياسي وطالبت بإسقاط أنظمته المستبدة والفاسدة، كثيرًا ما تقع في شباك الخطابات الأيديولوجية والآمال الخيالية والوهمية. أما الذات الثانية، حين تبزغ وتنطق، تكون مدركةً للواقع بشكل مختلف. فالذات الثانية تُدرك صعوبة الواقع وربما استحالة تغييره في الأجل القريب، وترفضه على الرغم من ذلك. فيكون رفضها رفضًا للممكن واختيارًا للمستحيل، رفضًا للتعويل على سُبُل النجاة السياسية، واختيارًا لـ "الآخر"، اختيار السوري للسوري الآخر سبيلًا اجتماعيًا وسياسيًا وحيدًا للنجاة.
ففي حين كانت الـ "لا" السورية الأولى عبارة عن "لا" أخلاقية سلطوية آتية من "فوق" مُفعَمة بآمال لم يكن أيّ منها منطقيًا أو عمليًا، هذه الـ "لا" السورية الثانية نابعة من "تحت"، من "الداخل". هي "لا" إيطيقية"، نابعة من الجسد، من ألمه المادي، من تجربته الخاصة، من دماره الداخلي والخارجي، هذه الـ "لا" الثانية مُفعَمة باليأس، (اليأس وليس الخنوع أو الرضوخ أو الاستسلام)، بل هي مُفعَمة بشجاعة اليأس الذي يُسمّي الأشياء باسمها من دون خوف أو تنميق، والذي يمكن أن يكون أكثر جدوى من كل تلك الآمال والأحلام والوعود الطوباوية الزائفة.
نكون، نعيش، نتمسّك بالآخر، لا لأن الحياة على هذا النحو ممكنة، بل تحديدًا لأن الحياة، بخلاف ذلك، مستحيلة
يقول الفيلسوف إيمانويل ليفيناس في تأويله لقصة إبراهيم الذي كان موشكًا على التضحية بابنه: "أن يطيع إبراهيم الصوت الأول أمرٌ مدهش. لكن أن يكون قد احتفظ إزاء هذه الطاعة بمسافة كافية ليكون قادرًا على سماع الصوت الثاني – هذا هو الجوهري". وهذا الصوت الثاني الذي سمعه إبراهيم حين كان يائسًا تمامًا هو الذي أنقذ ابنه ومنع محنته من أن تصبح جريمة دامية. إنّ السوريين في أمسّ الحاجة إلى الإصغاء إلى الصوت الداخلي الثاني، إلى الـ "لا" الثانية، الخارجة من جلودهم التي صَلُدت من برد الشتاء، وقلوبهم التي صدِئت في انتظار المغيّبين والمعتقلين، وعرق الجبين المهدور.
إن الإخلاص للكارثة، للحقيقة التي أتاحتها كارثة الزلزال المؤلمة، لآلام المنكوبين والمفجوعين والمصابين، يكون في إدراك أننا ذوات جوهرها الفَقْد. ذوات ليست يائسة بسبب الفَقد، بل قادرة على اليأس، لها شجاعة اليأس وقدرته وكفاءته. ومن هذا الفَقْد تحديدًا، وهذا اليأس، نتشكَّل كذوات، نتّخذ موقف العمل للوصول إلى مشروع سياسي اجتماعي أكثر واقعية ومنطقية.
في قصيدته "مكان" يقول الشاعر الأميركي ويليام ستانلي ميروين: "في آخر يوم في الدنيا، أودّ أن أغرس شجرة".
نغرس شجرة اليوم لا لنعيش من ثمرها أو ننام في ظلّها غدًا، نمضي مئات الساعات في البحث تحت الركام لننقذ طفلة من بين الآلاف وقد تكون ميتة في النهاية، لا من أجلها وأجل عائلتها فحسب، بل من أجلنا نحن.
نكون، نعيش، نتمسّك بالآخر، لا لأن الحياة على هذا النحو ممكنة، بل تحديدًا لأن الحياة، بخلاف ذلك، مستحيلة.
يُقال إن البركان الأيسلندي الذي ثار عام 1784 وأدى إلى وفاة الملايين في أوروبا وتفشي المجاعة والفقر في فرنسا، كان أحد الأسباب الأساسية لاندلاع الثورة الفرنسية، فهل يكون الزلزال سببًا لاندلاع ثورة سورية جديدة أو، أضعف الإيمان، ولادة ذات سورية جديدة؟