العقد النفسية في الفلسفة: رؤى وتفسيرات

20 ديسمبر 2024
+ الخط -

تُعدّ العُقد النفسية من الظواهر المعقّدة التي لطالما شغلت الفكر الفلسفي، فقد حاول الفلاسفة عبر العصور تفسير جذورها وأسبابها من زوايا متعدّدة. وتُعَرَّف العُقد النفسية بأنها مجموعة من الأعراض النفسية أو الجسدية التي تنشأ نتيجةً لتجارب غير مُعالجة أو مكبوتة، والتي تتسبّب في اضطراباتٍ سلوكية وشعورية تؤثّر على حياة الفرد. لكن السؤال المحوري الذي يظلّ مطروحًا هو: هل العقد النفسية هي نتيجة لصراع داخلي بين الدوافع الفردية والمجتمعية، أم أنها تعبير عن قيدٍ يفرضه المجتمع على حرية الإنسان؟

سيغموند فرويد: التحليل النفسي وظهور العقد النفسية

من أبرز المفكرين الذين تناولوا هذا الموضوع هو سيغموند فرويد، الذي يُعتَبر مؤسّس التحليل النفسي. وفقًا لفرويد، تنشأ العقد النفسية بسبب صراع داخلي بين الهو (الغرائز اللاواعية) والأنا (الذات الواعية). هذا الصراع قد يكون ناتجًا عن تجارب مكبوتة أو صدمات عاطفية، تتراكم في اللاوعي وتظهر لاحقًا على شكل أعراض نفسية وجسدية. في هذا السياق، يَعتبر فرويد أنّ العلاج يكمن في تفكيك هذه العُقد عبر استعادة الذكريات المكبوتة وفهمها، ممّا يسمح للأنا بالتحرّر من قيود الهو.

جان بول سارتر: الوجود والحرية

على النقيض من فرويد، يأتي الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر ليضع العُقد النفسية في إطارٍ من الحرية الإنسانية. بالنسبة لسارتر، فإنّ الإنسان هو الكائن الذي يملك حرية الاختيار الكامل، ومع ذلك يواجه قلقًا واغترابًا عندما يجد نفسه محاصرًا في شبكةٍ من التوقعات الاجتماعية والتقاليد. يرى سارتر أنّ العقد النفسية قد تنشأ من إحساس الفرد بعدم القدرة على تحمّل مسؤوليته في خلق معناه الخاص للحياة، ما يجعله يسعى للهروب من تلك الحرية التي يشعر بثقلها.

الوعي العميق بحدود الوجود قد يؤدي إلى مشاعر من الاغتراب والقلق

فريدريك نيتشه: الإرادة والوجود

من ناحيةٍ أخرى، يعتبر فريدريك نيتشه أنّ العقد النفسية ليست مجرّد اضطرابات فردية، بل هي جزء من صراع أعمق بين الإنسان وإرادته نحو القوّة. وفقًا لنيتشه، فإنّ الإنسان يعاني صراعاً داخلياً بين رغبته في تحقيق ذاته وإرادته الحرة، وبين القيود التي تفرضها الأخلاقيات والأنظمة الاجتماعية. العقد النفسية، في هذا السياق، هي نتيجة لهذا الصراع بين القوة الداخلية للفرد والضغوط المجتمعية التي تفرض عليه قيمًا وأخلاقيات تقيّد تحرّره.

ميشيل فوكو: السلطة والجنون

أما ميشيل فوكو، فقد تناول العقد النفسية في إطار العلاقة بين السلطة والعقل. في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، يشير فوكو إلى أنّ المجتمع هو الذي يُعرِّف العقل والجنون ويحدّد معايير الصحة النفسية. وفقًا لفوكو، فإنّ العقد النفسية ليست مجرّد اضطرابات فردية، بل هي نتاج لآليات السلطة التي تُخضع الأفراد وتعاملهم بناءً على معايير اجتماعية وثقافية صارمة. هذا النوع من السلطة المجتمعية قد يخلق ضغطًا نفسيًا على الأفراد، ما يؤدي إلى ظهور أشكال مختلفة من العقد النفسية.

العُقد النفسية ليست مجرّد ظاهرة فردية بل هي نتاج تفاعل معقّد بين الدوافع الداخلية والضغوط الاجتماعية

 مارتن هايدغر: الوجود والقلق

في فلسفة مارتن هايدغر تُعتبر العقد النفسية نتيجة للقلق الوجودي. وفقًا لهايدغر، فإنّ الإنسان يعيش دائمًا في حالةٍ من القلق نتيجة لوعيه بوجوده المحدود والمصير المحتوم للموت. هذا الوعي العميق بحدود الوجود قد يؤدي إلى مشاعر من الاغتراب والقلق، ما يجعل الفرد يعاني عقداً نفسية إذا لم يتعلّم كيف يواجه هذا القلق ويتقبّله بوصفه جزءاً من تجربته الإنسانية.

هل العقد النفسية هي نتيجة لصراع داخلي بين الدوافع الفردية والمجتمعية، أم أنها تعبير عن قيدٍ يفرضه المجتمع على حرية الإنسان؟

تُثير هذه الإشكالية تساؤلاً عميقًا حول العلاقة بين الفرد والمجتمع في تشكيل العُقد النفسية. فبينما يرى فرويد أنّ العُقد النفسية ناتجة عن صراع داخلي بين الأنا والهو، يشير سارتر إلى أنّ الإنسان قد يعاني عقداً نفسيّة بسبب قيد الحريات الفردية الذي يفرضه المجتمع. من ناحية أخرى، يعتقد نيتشه أنّ العُقد النفسية تأتي نتيجة لصراع بين إرادةِ القوّة الداخلية للفرد وبين القيم المجتمعية التي تقيّد هذه الإرادة. أما فوكو، فيرى أنّ المجتمع نفسه هو الذي يحدّد معايير "الصحة النفسية"، مما يجعل العقد النفسية ناتجة عن آليات السلطة التي تفرضها الثقافة الاجتماعية.

وفي هذا السياق، يبدو أنّ العقد النفسية ليست مجرّد ظاهرة فردية بل هي نتاج تفاعل معقّد بين الدوافع الداخلية والضغوط الاجتماعية. وهذا يفتح المجال للتساؤل حول مدى تأثير هذه العوامل في تشكيل هوية الإنسان وإرادته. فهل العوامل النفسية هي التي تُحدّد حريتنا في تشكيل حياتنا، أم أنّ المجتمع هو الذي يفرض على الفرد قيودًا تجعله يعاني صراعات نفسية؟

وعليه فإنّ العقد النفسية، كما تناولها الفلاسفة، تبرز ظاهرةً معقّدة تتداخل فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية والوجودية. وبينما تختلف رؤى الفلاسفة حول جذور هذه الظاهرة، إلا أنهم يُجمعون على أنّ العقد النفسية تعكس صراعًا داخليًا أو خارجيًا، وتُعتبر أحد تجليات تحديات الإنسان في محاولته فهم ذاته في عالمٍ مليء بالتحديات.

طرائف موسى
طرائف موسى
طالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانية بيروت/ العمادة، تخصّص فلسفة وتحضر الآن رسالة الماجستير مسار الإرشاد الفلسفي. عملت سابقا، كمعلمة في لجنة الإنقاذ الدولية وتعمل الآن عاملة توعية في لجنة الانقاذ الدولية.