العرب والموجة الاستعمارية الجديدة

01 ديسمبر 2022
+ الخط -

استغنى البعض عن مفهوم الأمة الإسلامية مخدوعين بمفهوم الأمة الإنسانية، ظنّاً منهم أنّ العالم يمكن أن ينصهر في بوتقة واحدة. في المقابل، نرى الغرب متمسّكاً بهويته الغربية، بل وماض في ترسيخها يوماً بعد يوم، وأكثر من ذلك، يفرض هذه الهوية على جميع الشعوب، فالمثلية حق يجب احترامه من وجهة نظره، وأن يختار المرء جنسه هو حرية تستوجب الدفاع عنها، ولا يحق لأحد التساؤل حول مصدر هذه الحقوق ومرجعيتها، أما أن تختار هويتك كمسلم، أو حتى أن تمارس حقك كإنسان برفض هذه الممارسات، فأنت متطرّف ولا إنساني!

يقدّم الغرب نفسه اليوم قيّماً على الهويات والقيم والبنى الاجتماعية والسيكولوجية للمجتمعات البشرية، ومصدراً للأخلاق وحكماً عليها، ويجري ذلك كلّه بنبرة مملوءة بتعالٍ جليّ، أظهر أسوأ ما يخفيه من جُبِلَ على الاستعمار والنهب وسرقة الثروات.

يأتي إلى بلادنا ضيفاً (وهو لا يزال يظنّ أنه آتيها فاتحاً بلباس الصليب)، ليقول بكلّ صلافة: أنا لا أحترم قوانينكم، لا أحترم معتقداتكم ولا عاداتكم، وسأفعل ما أريد، بل يجب عليكم الالتزام حرفياً بكلّ ما أمليه عليكم، لأنّنا أهل الحضارة وأنتم لا تعدّون كونكم أعراباً متخلفين.

من هنا يأتي السؤال: لماذا يصرّ الغرب هذا الإصرار على تثبيت هويته وتعميمها على جميع البشر؟ لماذا تواجه قطر كلّ هذه الهجمة في احتفالية من المفترض أنها ترفيهية ولا علاقة لها بالسياسة؟

يقدّم الغرب نفسه اليوم قيّماً على الهويات والقيم والبنى الاجتماعية والسيكولوجية للمجتمعات البشرية، ومصدراً للأخلاق وحكماً عليها

للإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إنّ التيار الليبرالي الغربي حكم العالم عسكرياً بالحديد والنار والرعب النووي، واقتصادياً عبر "اقتصاد السوق المفتوح"، لكنّ حكمه ما زال غير محكم بسلاسل العبودية والاستعمار التي يريد، ولن يكتمل إحكام هذا القيد إلا عبر قيادة البشرية (اجتماعياً وثقافياً وهوياتياً)، الأمر الذي يتطلب تفكيك البنى الاجتماعية، وتغيير تركيبة الهويات، وإعادة صياغة الثقافات.

إنّ مفهوم الهيمنة الغربية لا يمكن له أن يكتمل إلا عبر مسار طويل من الإحلال والاستبدال القيمي في الدين والأسرة والمجتمع، لتكون المثلية والنسوية بديلاً عن الأسرة التقليدية المحافظة، والتحوّل الجنسي بديلاً عن الذكر والأنثى، وقيم الجندر الجديدة بديلاً عن المجتمع الصلب المتماسك، وبالتالي ستكون النتيجة القطعية لذلك هو استيراد كلّ شيء حرفياً من المُهيمن والمستعمر، وإعادة تعريف كلّ علاقات المجتمع الأسرية والجنسية وفقا لقواعده، لنصل إلى نتيجة مفادها "عملية متكاملة من النكاح الهوياتي".

استفاد الغرب من تجربته الطويلة في الاستعمار وتكسير ثقافات الشعوب وتغيير هوياتها، وتطورت وسائله عبر الزمن من الهيمنة بالسيف والمدفع إلى الهيمنة بالتغيير السلس والبطيء عبر إغراق البشر بالشهوة والترفيه.

كلّ ضيف يحلّ علينا يتوّجب عليه احترام القانون والثقافة والدين

جاءت مناسبة كأس العالم، التي تشكل نقطة التقاء جميع شعوب الأرض في بقعة صغيرة جداً، لتكون فرصة جديدة للمستعمر الغربي لتقويض ثقافة الغير وإحلال ثقافته، لكن ما فعلته قطر هو أنها قالت: هناك ما يسمّى بالثقافة المحلية، ونحن أمة عربية لنا ثقافتنا، ونحن أمة إسلامية لنا هويتنا، والناس ذكر وأنثى فقط، ولا فضل لشعب على شعب، ولا قوم على قوم، وكلّ ضيف يحلّ علينا يتوّجب عليه احترام القانون والثقافة والدين.

 قالت قطر للغرب إنّ قيمكم ليست كونية، ولستم المتحدثين الرسميين باسم الإنسانية، ولستم الأوصياء على الأخلاق، ولا مصدراً لها.

هذا المسار الصعب الذي تسلكه قطر بتحدّي غطرسة "النظام العالمي الديمقراطي الكيوت"، هو طوق النجاة الوحيد الذي يمكن أن يسلمنا إلى برّ الأمان، بدلاً من أن نجد أنفسنا "مغتصَبين ثقافياً" أو "متحولين جنسياً"، وهذا يتطلب صلابة في الاصطفاف ونفساً طويلاً في المواجهة، وإنها لمعركة لو تعلمون عظيمة.