الصين تلتفت إلينا

29 سبتمبر 2023
+ الخط -

ضحكت كثيراً عندما صادفت ذلك التقرير على قناة الصين بالعربية: صينية شابة، اسمها آسيا، تدرس العربية الدارجة وتتكلّمها باللهجة المصرية، تقوم بتقليد كبار الممثلين الكوميديين العرب في مقاطع اشتهرت من أعمالهم، وتجيد ذلك.

بدا التقرير محتفياً بالصبية الموهوبة، والتي اختارت لنفسها اسماً مستعاراً ذا صلة بهويتنا المشتركة كأبناء لقارة واحدة لا يعرفون بعضهم بعضاً، ويفتقرون إلى وسائل التواصل كاللغة المشتركة، لتعارف مناسب. 

فنحن، أبناء مستعمرات غرب قارة آسيا الفرنكوفونية والأنكلوفونية، تدربنا منذ صغرنا على النظر والتفكير غرباً، تبعاً لما ربتنا عليه المناهج التربوية التي وضعت برعاية أتباع مستعمرينا السابقين (والحاليين بلبوس جديد)، وبالتالي فإنّ خياراتنا بما يختص لغتنا الثانية، أداتنا للتواصل مع العالم غير العربي، كانت إمّا الإنكليزية أو الفرنسية. 

لهذا، أتابع منذ فترة قناة الصين بالعربية. فهذه القناة تبدو لي، في ظلّ صعود الصين إلى منصّة الاهتمام العالمي، نوعاً من نافذة تطلّ على مشهد جديد عليّ كلّ الجدّة: حضارة جارة، بدأت صورتها تتضح بفضل جهدها المتسارع أخيراً (ولو بإيقاع حجمها الضخم) للتواصل مع العالم، ومنها العالم العربي، وإن كان هذا الجهد الأخير لا يزال دون المطلوب بكثير، خصوصاً على المستوى الشعبي. 

فالإعلام الصيني بقناته العربية مثلاً، لم يعثر بعد، عكس قناته بالإنكليزية، على "لهجة" مناسبة للتواصل مع الجمهور العربي وجذبه كما تفعل القنوات العالمية. فلهجة الأخبار تذكر المصريين والسوريين بتلفزيوناتهم الحكومية الغابرة، وبالتالي تنفّر المشاهد لالتزامها بكليشيهات اللهجة الرسمية عن عالم لا يعرفه أصلاً، فينصرف عن المتابعة مللاً، ولو كان مهتماً. 

الإعلام الصيني بقناته العربية مثلاً، لم يعثر بعد، عكس قناته بالإنكليزية، على "لهجة" مناسبة للتواصل مع الجمهور العربي وجذبه كما تفعل القنوات العالمية

لكن ما إن تنتهي الأخبار، حتى يحلّ، من وقت لآخر، برنامج ممتع للعين دون حاجة لمجهود اللغة، كما في برامج "الفنون الصينية" المبهرة، أو تقارير هامة كما في برامج وثائقية عن تاريخ علاقة العالم العربي بالصين، أو ظريفة، كالتقرير الذي أتحدّث عنه. 

فبالرغم من اللهجة العامية وموضوع التقليد، أي مشهد من مسرحية كوميدية بكلّ ما يعنيه من خصوصية تجعل الترجمة صعبة، إلّا أنّ آسيا نجحت بشكل مدهش. هكذا، اختارت الصبية العشرينية مشهداً عبقرياً، يجمع بين بساطة المعنى والإيماء، وبالتالي سهولة الترجمة والوصول. أقصد مشهد قنينة الكوكاكولا الشهير في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" للمصري عادل إمام.

هل تذكرونه؟ من شاهد المسرحية، وأنا واثقة أنّهم بالملايين، يذكرونه دون أدنى شك. فسرحان عبد البصير، أي عادل إمام في المسرحية، يطلب من القاضي الذي أمر باستراحة خلال المحاكمة، أن يجلبوا له قنينة كوكاكولا لأن "ريقي نشف". يجلبها له ساعي المحكمة الذي يبدو، وكأنه يشتهي شربها. يلعب "إمام"، الممسك بالقنينة، على هذه الفكرة بعبقرية، مختاراً جملاً تبدأ بكلمات تؤمّل الساعي بالحصول على بعض المشروب من نوع "خذ.."، مشوّحاً بالقنينة صوبه، ليتراجع ثم يكمل بجملة تفيد معنى آخر من نوع ".. بالك من عيالك"، أو "إمسك.."، ثمّ يكمل قائلاً: "أعصابك". وترافق الحركة الجسدية هذا اللعبة بشكل متطابق، فيمدّ الساعي يده وهو يهمّ بأخذ القنينة مع كلمة "خذ"، ثم يتراجع خائباً عندما يكمل إمام جملته. 

اختيار هذا المشهد السهل الممتنع، جعل تقليد آسيا له ممتازاً ومفهوماً. فهو لا يعكس أيّ أفكار محلية عصية على فهم الأجنبي. لذا لاقى الفيديو رواجاً رفع عدد متابعيها على قناة يوتيوب إلى أكثر من ثلاثة ملايين متابع، حسب قولها للمراسل. 

وبفضل هذا الانتشار السريع، انطلقت "آسيا"، وأصبح لها فريق عمل يساعدها بالماكياج والتمثيل ولفظ مخارج الحروف، ثم وسّعت بيكار اهتمامها ليشمل تقليد كوميديين من بلدان أخرى كياسر العظمة في "مرايا"، وأحمد حلمي وغيرهم.

تكرّر قناة الصين بالعربية في ما يشبه الحلقة المفرغة عرض المسلسلات إياها، حوالي عشرين مسلسلاً، يُعاد بثها على مدار السنة، حتى تكاد تظن أنّ الصين لا تنتج أيّة مسلسلات أخرى

نجاح هذه الممثلة الكوميدية الناطقة بالعربية يثبت أنّ هناك جمهوراً، على الجانبين، متعطّش للتواصل. وهو يحاول ذلك عبر البوابة الأسهل، أي الفنون. ما يطرح سؤالاً: لمَ لا تنعكس هذه الرغبة بالتواصل عبر الوسيلة الأكثر فعالية في عالمنا اليوم أي الدراما التلفزيونية؟

هذه الدراما التي باتت تسوّق لبلدانها وثقافتها أكثر من أي وسيلة أخرى، وأثبتت أنّه باستطاعتها حتى زيادة عوائد السياحة والتجارة بشكل غير مسبوق (المثال المصري سابقاً، والأميركي دائماً وأخيراً التركي والكوري الجنوبي)، هي الأخرى تعاني من مشكلة غير مفهومة على القناة الصينية. 

فما يُؤخذ على القناة، التي تتميّز ترجماتها للعربية الفصحى بجودة عالية، تكرارها في ما يشبه الحلقة المفرغة، لحوالي عشرين مسلسلاً، يُعاد بثها، هي نفسها على مدار السنة، حتى تكاد تظن أنّ الصين لا تنتج أيّ مسلسلات أخرى.

 مع العلم أنّ بحثاً بسيطاً على غوغل يحيلك إلى آلاف المسلسلات الدرامية الصينية على المنصات الإلكترونية، الخيالي والتاريخي والرومنسي والبوليسي إلخ.. صحيح أنّ الكثير منها من إنتاج هونغ كونغ، ولكن تلك المنتجة في "البر الرئيسي"، لا تقلّ عنها عدداً. 

ومع ذلك، تُفاجئك القناة من حين لآخر بعمل درامي مدهش، كما في مسلسل "الممالك الثلاث"، الذي سبق عرضه مترجماً على قنوات عربية، والذي يحكي قصة تكوّن الصين في القرنين الأول والثاني ميلادي، والصراع الذي كان سائداً حينها بين ثلاثة ممالك رئيسة (وبالتالي ثلاث نظريات للحكم) للسيطرة على كامل أراضي الصين. وهو ما تحقّق في نهاية الأمر للقائد العسكري "تشن"، الذي أعطى اسمه للصين الحالية.

مسلسل مبهر، ليس فقط بتقنياته وبراعة الممثلين بالفنون القتالية والتعبيرية، لكن أيضا بلغته التي تمزج بين الفصاحة والشاعرية، ومروحة المعارف التي قدّمها إلينا بتسليطه الضوء على مراجع كلاسيكية للتاريخ والثقافة الصينيين، إضافة للمفاهيم العسكرية القديمة وأعلامها من شخصيات مهمّة، إلى الاستراتيجيات العسكرية، بعلم الفلك وحساب الكواكب وتأثير العناصر في المعارك والحروب. كلّ ذلك بقصص على حافة الخرافة، تُمتّع الخيال وتذهب بنا بعيداً عمّا اعتدنا مشاهدته.

كلمات المارد الصيني الموّجهة لنا حتى الآن أشبه بغمغمة المستيّقظ للتو، عمومية وغير دقيقة. فلنمنحه بعض الوقت حتى يستفيق تماماً

ولقد مضت سنوات على "الممالك الثلاث"، وكان المرء يسأل نفسه: لم بلد موارده بهذه الضخامة والتنوّع لا ينتج مثيلاً لهذا المسلسل الضخم؟ 

لكن أخيراً، فاجأتنا القناة بمسلسل جديد، ضخم الإنتاج، تعرضه حالياً بعنوان "عصر اليقظة". ويحكي المسلسل التاريخي عبر قصة "جامعة بكين" الشهيرة، سيرة الثورة الصينية الحديثة، متنقلاً بين رسم أحوال الناس في تلك الأيام، وبين تقديم شخصيات سياسية وعسكرية كانت تحكم تحت تأثير الأجانب. كما يروي الصراع بين أنصار عودة النظام الملكي القديم، وبين أنصار التجديد، مسلطين الضوء على معنى "الثقافة الجديدة" التي كانت الجامعة بأساتذتها تروّج لها عبر مجلة "الشباب الجدد".

هذه المجلة التي أسّسها مثقفون وشعراء كبار كانوا يدرسون في الجامعة، كان لها دور كبير في حسم الصراع بين قديم الثقافة، واللغة الصينية القديمة غير المتاحة للعامة لصعوبتها، وبين اللغة الجديدة المبسّطة، وما تحمله من قيم جديدة تساوي بين الناس. كلّ ذلك على خلفية رواية أحداث قرن من الزمن الصيني. 

التصوير والإخراج والتمثيل والسيناريو كلّها ممتازة، وعلى قدر كبير من الأهمية لمن يريد معرفة رواية الصين الحالية عن تاريخها. وقد يكون مناسباً لمن يريد متابعة المسلسل أن يبقي حاسوبه بجانبه، كما أفعل، للبحث عن المزيد عن شخصيات وأحداث تاريخية يذكرها المسلسل.

باختصار. هناك نوافذ شرقية بدأت تنفتح أمامنا، على عالم جديد فعلاً علينا. فالجار العملاق بدأ يلتفت إلينا ببطء. لكنه قد لا يكون وجد بعد مفرداته وإيقاعه المناسبين. فكلماته الموّجهة لنا حتى الآن أشبه بغمغمة المستيّقظ للتو، عمومية وغير دقيقة. فلنمنحه بعض الوقت حتى يستفيق تماماً.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى