02 سبتمبر 2024
الصحافي الذي استهزأ بحافظ
بطل قصتنا هو الصحافي الشجاع (قاف) الموظف في إحدى الصحف السورية الثلاث الشهيرة. حدثنا الأستاذ كمال، خلال القسم الأول من سهرة الإمتاع والمؤانسة، عن شجاعة "قاف" المقترنة بالذكاء، فعلى الرغم من الجو المشحون الذي كان يخيم على المؤسسات الصحفية في عصر حافييظ الأسد، وامتشاق السلطة سلاحين خطيرين هما الترهيب والترغيب، كان ذكاء قاف يسعفه دائماً في ابتكار طرق جديدة ومتنوعة للتملص من مديح حافييظ، لأن هذا المديح لو حصل يسيء إليه ويضرب سمعته وتاريخه.
كان "قاف"، بحسب رواية كمال، يعيش ضمن مجموعة لا بأس بها من الصحافيين المنافقين، منهم مَن يُجهد نفسه في آناء الليل وأطراف النهار لنظم أبيات من الشعر الرديء يمدح فيها حافظاً وعائلته وسلالته، ومنهم مَن يلجأ إلى الإمعان في تزوير التاريخ، فينزع صفة البطولة من أبطال مشهورين مكرسين تاريخياً، ويلصقها بأحد أفراد سلالة حافييظ. الهدفُ من ذلك كله كتابةُ تاريخ نظيف ومشرف لهذا الديكتاتور، وإلباسه صفاتٍ جديدةً، وإغفالُ صفاته الحقيقية عمداً، فحافظ، كما هو معروف، إنسان فقير، ابن عائلة صغيرة تعيش في قرية جبلية، ولكنه طموح، وجسور، وطالب سلطة، لذا تطوع في الجيش، وبدأ يعمل بدأب لتحقيق أهدافه، وحينما وصل إلى السلطة بدأ يتحول بالتدريج إلى كائن متوحش ذي مهارات عالية في القتل، والمراوغة، وشراء الذمم، والسرقة من خيرات سورية، حتى قيل إنه أصبح يحتل المرتبة السادسة بين أغنياء العالم، وقد استخدم وحشيته السلطوية من أجل تحويل الجمهورية العربية السورية إلى دولة رعب وراثية، لتعمل هذه السلالة العاطلة على نهب سورية وإذلالها.
قال أبو محمد: اللي صاير فينا، إنكم بتعطونا جرعة تشويق حتى نسمع حكاية كويسة، وبتتركونا وبتصيروا بتحللوا وبتفسروا.. نحن هلق عم نستنى منك يا أستاذ كمال تحكي لنا شلون وصل الصحافي قاف لفرع فلسطين. هادا هوي المهم.
قال كمال: حاضر. أنا حكيت لكم إنه "قاف" كان ينزل كل يوم المسا إلى شارع الفردوس، ويلتقي مع صديقه الصحافي "عين" في قهوة الهافانا، وكل واحد من التنين كان يحكي للتاني أيش صار معه خلال الدوام في الجريدة، ولما بيحكي بيتخلص من حمولة الوجع اللي كان يعاني منها بسبب كل هالنفاق والكذب اللي بيتعرض لهم في الشغل. تصور يا عمي أبو محمد، "قاف" بيكره المديح والمداحين، ومع ذلك بيجيه أثناء الدوام شاعر عامل قصيدة بمديح حافييظ بيقرا له بيتين وبيسأله: هاي القصيدة من البحر المتدارك ما هيكه؟ ومع إنه قاف ما بيكتب شعر لكن بيعرف كل شي عن البحور، وبيضطر يصحح له: لا والله يا رفيق، من البحر البسيط.
بيقله الشاعر: أي والله البسيط البسيط، ترى أنا بعرف إنه من البسيط، بس خربطت. دخلك، شلون شفت لي هالأبيات؟ ما كيسة؟
بيقول له قاف: بلى كيسة.
بيقول الشاعر: بس ليك، ترى السيد الرئيس بيستاهل، لا تقلي ما بيستاهل.
بيقول قاف: ولو يا زلمة، بعدين إنته رجل شجاع وصاحب موقف، لو ما السيد الرئيس بيستاهل ما بتمدحه!
ولسه يا دوب بيكون قاف خلص من هاد الشاعر اللزقة بيجيه واحد صحافي كاتب مقالة أكبر من ملحفة اللحاف عم يحكي فيها عن المعاني الفلسفية والأبعاد الاستراتيجية للكلمة التاريخية التي ألقاها الرفيق المناضل حافظ الأسد في افتتاح المؤتمر الحادي عشر لاتحاد الفلاحين، وبيطلب منه يقراها ويعطيه رأيه.
قاف ما بيسترجي يقول للصحافي (حل عن قفانا)، بيقول له: تكرم عينك اترك لي ياها شوي. وبعدما يتركها بيصير قاف يقرا منها صفحة أي وصفحة لأ، وسطرين أي وسطرين لأ، برأي قاف إنك إذا بتقرا نصها أو ربعها أو عشرة بالمية منها ما بتخسر شي، لأنها مكتوبة بنفس اللت والعجن والعلاك، وبيكون بدها ساعتين للقراية، بيقراها بتلات دقايق، ولما بيسأله الصحافي رأيه بيقول له:
- مقالة جيدة ومتماسكة، الحقيقة إنك تمكنت من الغوص في الأعماق الاستراتيجية والتكتيكية للخطاب، وتلمست الأبعاد الفلسفية الكامنة وراء السطور، وعندك إلمام معمق وضلوع أكيد بشخصية القائد، منشان هيك أنا بعتقد لما راح تنشر هالمقالة راح تضرب، وتكسر الدنيا، وما راح تلاقي وقت لترد على تلفونات المعجبين والمعجبات. على فكرة، إذا كتروا عليك المعجبات وحبيت تتخلص من شي وحدة ادفشها عَلَيّ، لأني أنا شوفة عينك فقير ودرويش ووحداني، الله وكيلك كل شي كتبته بهالعمر ما أجت بنت حلوة وقالت لي: يسلموا إيديك.
قال أبو محمد: بالفعل هادا "قاف" واحد ذكي، وبيعرف يخلص حاله من الزنقات. وأنا بستغرب إنهم ياخدوه على فرع فلسطين متلما قلت لنا.
قال كمال: المتل العربي بيقول (من مأمنه يؤتى الحذر). وهادا اللي صار مع صديقنا الصحفي قاف. يا سيدي، في يوم من الأيام اتفق "قاف" مع رفيقه "عين" إنه يجي "عين" لعنده ع مقر الجريدة، لحتى يفرجيه شغلة عجيبة، وبعدما يشوفوها سوا، بيلتقوا المسا في مقهى الهافانا، بيحكوا وبيتندروا فيها. "عين" وافق عَ الفكرة، وإجا لعند "قاف" ع الجريدة، وقاف استقبله، ونادى لبعض الشعراء الانتهازيين المنافقين حتى يجوا ويشربوا معهم قهوة في مكتب قاف.
ولما انعقدت الجلسة فتح قاف حديث سياسي، وبلش يشيد بالمواقف التاريخية العظيمة اللي بياخدها حافييظ في مواجهة المؤامرات الإمبريالية الصهيونية الرجعية. و"عين" أيد كلامه، وجاب معلومات إضافية عن هالصمود العجيب. هون قاف استغل الفرصة وطلب من الشاعر المنافق (أ) إنه يقرا آخر قصيدة كتبها في مديح حافيييظ، فتحمس (أ) وبلش يقرا القصيدة، وأثناء القراءة كانوا قاف وعين عم يتبادلوا نظرات استهزاء مبطنة بالإعجاب. ولحد هون الأمور كانت مقبولة، لحتى قاف ارتكب الغلط اللي خلاه يوصل لفرع فلسطين.
قال أبو ماهر: شو عمل؟
قال كمال: لما الشاعر المنافق خلص قراءة القصيدة، قاف، من دون ما يقصد، وكأنه عم يفكر بصوت مسموع قال: طيط!