السينما العراقية بين الماضي والحاضر
شهدت بغداد أوّل عرضٍ سينمائي صامت في العراق عام 1909، وذلك عندما تمّ عرض "السينماتوغراف" بدار الشفاء في الكرخ، إذ ذُهل الجمهور آنذاك، وهم يشاهدون صور القطارات تتحرّك بلا صوت. هذه اللحظة كانت البداية لعلاقةِ العراق بالسينما التي تطوّرت تدريجياً عبر السنوات. وفي عشرينيات القرن الماضي، أخذت السينما بالنضج مع بناء دور عرض نظامية، خاصة بعد انتشار الأفلام الناطقة في عام 1931، مع عرض فيلم "ملك الموسيقى" وفيلم "موسيقى برودواي". وسرعان ما غزت الأفلام العربية المشهد العراقي، بدءاً بفيلم "أولاد الذوات" في أوائل الثلاثينيات.
مع انتشار السينما في بغداد، أصبحت دور العرض جزءاً لا يتجزّأ من الحياة الثقافية والاجتماعية. فأنشئت صالات مثل "الزوراء" و"روكسي" و"ريكس" في شارع الرشيد، المكان الحيوي آنذاك. وتواصلت هذه الحركة في أحياء أخرى مع بناء صالات مثل "بغداد" و"زبيدة". وجاءت سينما "الخيام" كأيقونة بارزة، إذ اعتُبرت من أفضل دور العرض في الشرق الأوسط.
السينما متعة العائلات في عصرها الذهبي
في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أصبحت السينما نشاطًا عائليًّا بارزًا في العراق، إذ خصّصت بعض دور العرض أماكن للعائلات، ممّا ساهم في زيادة شعبيتها بين مختلف فئات المجتمع. كانت دور العرض ضخمة في تلك الفترة، وسينما "روكس" كان لديها ما يصل إلى 1800 مقعد، بينما سينما "النصر" ضمّت أكثر من 2300 مقعد. في ذلك الوقت، كان مستوردو الأفلام مثل حبيب الملاك وأولاد سوداوي يُعتبرون نجومًا في المجتمع، حيث كان دورهم أساسيًّا في تقديم أحدث الأفلام للجمهور.
في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، كانت السينما نشاطًا عائليًّا بارزًا في العراق
مع تطوّر السينما في تلك الفترة، ظهرت طرق جديدة لترويج الأفلام، منها استخدام عازفي الطبل لإعلان العروض، وحتى مشاهد هزلية ترفيهية خلال الاستراحات. كما ازدهرت ظاهرة الإعلانات الجوّالة، التي جعلت الاثنين من كلِّ أسبوع يومًا تنتظره الجماهير بحماسٍ لمشاهدة العروض الجديدة.
الحرب وتراجع السينما
مع دخول العراق في حرب الثمانينيات، تعرّضت الحياة الثقافية لضربةٍ قاسية، إذ توقفت السينما عن كونها وسيلة ترفيه رئيسية بالتوازي مع تحوّل اهتمامات الدولة والمجتمع إلى الحرب. في التسعينيات، ومع غزو الكويت وفرض الحصار الطويل على العراق، زادت معاناة الشعب، وأصبح الخوف والبقاء أولوية على الترفيه. تراجع الذهاب إلى السينما تراجعًا ملحوظًا، وحلّت الرياضة الشعبية بديلًا لتلك المتعة.
زمن جديد للسينما
على الرغم من التحدّيات، لا تزال دور السينما في العراق موجودة، لكنها اختلفت عن تلك التي كانت في الماضي. صالات السينما الحديثة الموجودة في المولات تستقطب اليوم جمهورًا شبابيًّا بشكل أساسي، ومع ذلك لا تمثل سحر السينما الكلاسيكية التي عاشتها الأجيال السابقة. التقنية الحديثة والفيديوهات المتاحة عبر الإنترنت قلّلت من دور السينما التقليدي، لكن لا يزال هناك أمل في أن تبقى دور العرض جزءًا من ذاكرة العراق الثقافية.
لا يزال هناك أمل في أن تبقى دور العرض جزءًا من ذاكرة العراق الثقافية
لطالما كان هنالك جيل جديد من السينمائيين والمخرجين الذين يسعون لتقديم قصص تعكس الواقع العراقي وتتناول قضايا معاصرة، ممّا يعيد الحياة للسينما المحلية. هذه الأفلام لا تُعرض فقط في دور السينما، بل أيضًا في المهرجانات الدولية، ممّا يساعد في تسليط الضوء على السينما العراقية وإبراز موهبة الفنانين.
تعمل بعض المنظّمات غير الحكومية على تعزيز الثقافة السينمائية من خلال ورش عمل ودورات تدريبية تستهدف الشباب، ممّا يتيح لهم فرصة التعلّم والإبداع في هذا المجال. من المهم أيضًا أن يتلقى الجمهور دعمًا واهتمامًا من الدولة، لتعود السينما منصّةً ثقافية تعبّر عن المجتمع وتعزّز الحوار.
بينما تستمر السينما في التطوّر، يبقى تأكيد أنّ الشغف بالفن السابع جزء لا يتجزّأ من الهوية العراقية، حيث يسعى الجميع للحفاظ على تلك الذكريات الجميلة واستعادة البريق الذي كانت تتمتّع به السينما في السابق.