السفارة الأميركية في بيروت

03 ديسمبر 2020
+ الخط -

كثيراً ما حالفني الحظ في طريق السفر الذي كنتُ أوليه أهميةً كبيرة، منذ نعومة أظفاري وإلى اليوم.. وفي إحدى رحلاتي إلى بلاد العم سام التي سافرت إليها أكثر من مرة في كل عام بعد حصولي على أول تأشيرة لزيارتها بعد بذل المزيد من الجهد والوقت والمال، في صيف عام 1999، فضلاً عن تحضير المستندات، وكل ما يتعلق بالوثائق لأجل إبرازها للقنصل الأميركي في سفارتي الولايات المتحدة في كل من دمشق وبيروت.

وفي زيارتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة كنت قد تعرضت لكثير من المضايقات، وتحمّلت مشاق السفر إلى بيروت لأجل الحصول على التأشيرة الثامنة، لا سيما أنّ السفارة الأميركية في دمشق كانت متوقفة عن منح التأشيرات، وهذا ما ألجأني إلى السفارة الأميركية في لبنان الشقيق للتقدم بالوثائق الرسمية وإجراء المقابلة الشخصية، إلّا أنَّ السفارة الأميركية في بيروت في حينها، ومن أجل تخفيف عبء السفر على السوريين إلى بيروت لأجل تقديم طلب الاستمارة، مكنت الراغبين منهم من إملائها عبر الإنترنت وحسب معرفته، إضافة إلى دفع الرسوم المالية الخاصة بذلك، أو اللجوء إلى أحد مكاتب الترجمة في دمشق، والتي تملك الخبرة الكافية في هذا المجال، وبدورها تقوم بدفع المبلغ الخاص برسوم التاشيرة المسبق دفعه لحسابها، بإرسال عامل لديها إلى أحد البنوك الخاصة المعتمدة لديها حتى يصير الطلب يأخذ الطابع الرسمي، وعلى ضوئه يحق لصاحبه التأكيد عليه، والمطالبة به.

وكنتُ قد سافرت بعد أيّام إلى دمشق، وتردّدت إلى أحد أصحاب مكاتب الترجمة، وهو مكتب قديم، وأعرف صاحبه بشكل شخصي، ومنذ سنوات، مع بداية ترددي على السفارة الأميركية، وهو من كان يساعدني في تعبئة طلب الاستمارة الخاصة بالتأشيرة، وبعدما قدّمت له ما لديّ من وثائق، وملء الاستمارة التي تتكون من ست صفحات ودفع ما عليَّ من رسوم وأتعاب لصاحب المكتب، غادرت دمشق باتجاه مدينتي الرّقّة، وبعد يومين اتصل ليعلمني بتاريخ موعد المقابلة الشخصية في مبنى السفارة في بيروت، وأكد لي أنّني يجب أن أغادر سورية باتجاه لبنان والتوجه إلى السفارة قبل يومين على الأقل من موعد المقابلة، تحسباً من عثرات الطريق.

وبعد مضي أكثر من شهرين على تقديم طلب الاستمارة، حان موعد التحضير للسفر إلى بيروت، والتأكّد من مضمون الوثائق التي بين يدي والتي من المفترض أنني انتهيت منها لأخذها معي وعرضها على القنصل هناك في حال طلب أيّ إيضاح يخصّني.

بعد أشهر أعدت المحاولة للمرة الثانية، ونتيجة متابعة وجهد، وافق القنصل الأميركي العامل في السفارة في بيروت على منحي تأشيرة السفر

وقبل يومين من موعد المقابلة في بيروت، غادرت الرّقّة وسافرت إلى بيروت، وهناك أقمت لدى صديق وجار كريم، وهو من المقيمين منذ فترة بعيدة في لبنان، وفي يوم المقابلة، وقبل موعدها بثلاث ساعات، قرّرت التوجّه إلى مبنى السفارة في العاصمة اللبنانية بيروت، مفضلاً الانتظار هناك خوفاً من أن يفوتني الموعد، وهذا ما سيكون له ردّة فعل بالنسبة لي، خاصة أنّني قطعت مشواراً متعباً، ناهيك بتحمّل مصاريف الإقامة والسفر ودفع الرسوم الخاصة بالفيزا.. والرقم الذي دفعته ليس بالبسيط، فهو يعادل في حينها رواتب ثلاثة عاملين من الفئة الأولى في سورية.

استقللت سيارة تاكسي صديق لي، وبعد حوالي ساعة تمكنت من الاستدلال على مكان السفارة، ووصلت إليها قبل فترة من الموعد المحدّد، وإلى مقربة منها يوجد مقهى متواضع، التقيت مع  عددٍ من الراغبين الذين أخذوا مكانهم بانتظار موعد مقابلتهم داخل السفارة مع القنصل، وكان من بين الحاضرين في المقهى شابتان في مقتبل العمر، وامرأة ستينية من مدينة طرطوس الساحلية، وكنا ننتظر أدوارنا في الدخول إلى بهو السفارة بحذرٍ وخوف شديدين، كما التقيت بأحد الإخوة السوريين الذين جاء هو الآخر من مدينة حلب راغباً في الحصول على التأشيرة لأجل زيارة شقيقته التي غادرت سورية قبل نحو ثلاثين عاماً، ومقيمة في الوقت الحالي في ولاية نيويورك، وهو كما ذكر على تواصل مستمر معها عبر الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي بصورةٍ مستمرة، ويأمل بموافقة السفارة على منحه الفيزا ليتمكن من زيارتها.. وغيره كثيرين من سوريين ولبنانيين.

كان الوقت يمضي مسرعاً، وفترة الانتظار تتأزّم مع طول الانتظار الممل، إلّا أنَّ الحاضرين من الراغبين في السفر، ومن الذين ينتظرون دورهم في المقابلة وعَرض ما لديهم من وثائق، أغلبهم باتوا يتهيّبون الموقف، والخوف من عدم الموافقة على طلباتهم، والمقابلة الشخصية وحدها هي التي تحدّد المصير.

الكل كان يعيش في فترة توجّس وريبة بانتظار دخول مبنى السفارة والحيطة والحذر الشديدين من الفشل، وهو ما كان يُرعب الحاضرين الذين بدأوا يضربون أخماساً بأسداس.

وقفنا أمام باب السفارة في بيروت بانتظار أخذ دورنا، وبدأوا بتفتيش ملابسنا بدقّة متناهية، وفي داخل صالتها الفسيحة أخذ كل منا دوره بانتظار المقابلة الشفهية التي ستحدّد مصيره المستقبلي.

أخذت الحيرة ترتسم على شفاه الجميع، وأنا كنت من بينهم، لا سيما أن القنصل المعني بمنح الموافقة لم يكن على ما يبدو على ما يرام في ذلك اليوم، فأغلب المتقدمين للحصول على الفيزا لم يحالفهم الحظ. كان الرفض هو ما كان يغلب على طلبات أغلب المتقدمين، ولم أبدِ أي تذمّر أو استغراب، على الرغم من أنه سبق لي أن حصلت على أكثر من تأشيرة زيارة سابقة من السفارة الأميركية في دمشق، ولم أخالف في يوم ما التعليمات الصادرة بهذا الخصوص أثناء سفري للولايات المتحدة، والتزامي فترة الإقامة المحددة التي تُعطى عادة في المطارات الأميركية، وفي المدن التي أزورها.

طبيعي أنَّ ردّة فعلي كان يعلوها، في هذه المرة، الاستغراب والكثير من إشارات التعجّب، وإن كان من حقهم رفضي أسوة بغيري من المتقدمين، فقضيت بعد خروجي من قاعة السفارة يومين آخرين في العاصمة اللبنانية بيروت في ضيافة صديقي الحميم أبو إبراهيم، وعدت بعدها إلى الرّقّة جارّاً ذيول الخيبة، ولكن الرغبة في السفر إلى بلاد العم سام ما زالت قائمة.

وبعد أشهر أعدت المحاولة للمرة الثانية، ونتيجة متابعة وجهد وافق القنصل الأميركي العامل في السفارة في بيروت على منحي تأشيرة السفر، بعدما تقدمت بالأوراق الرسمية الخاصة بالمقابلة قبل موعدها بفترة زمنية محددة، لعامين آخرين، ولعدّة سفرات، وعلى الرغم من أن أسئلته لي كانت مختصرة وقصيرة، ولم يطلب مني أيّ وثيقة رسمية، واكتفى بقناعته الشخصية، وبطلب الاستمارة التي تتضمن جميع المعلومات عن الراغب في السفر، وبعد ذلك قرّرت الذهاب إلى أحد مكاتب السياحة والسفر في وسط بيروت، وهناك دخلت إلى أحد هذه المكاتب واشتريت بطاقة الطائرة، وأكدت الحجز والسفر إلى ولاية لويزيانا التي قضيت فيها أكثر من عام ونيّف، هرباً من واقع الأحداث التي عصفت بسورية، ومن واقع اقتصادي سيئ!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.