"السباحتان"... صورتنا التي يرسمها الآخرون
تكلّم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، في إحدى مقابلاته عن واحدة من أهم اللوحات الكلاسيكية في تاريخ الفن، وهي لوحة "ساحر الأفعى" للفنان جان ليون جيروم (Jean-Léon Gérôme)، والتي اختارها إدوارد لتكون لوحة الغلاف لكتابه "الاستشراق"، كما انتقد من خلال هذه اللوحة العقلية الغربية في تأطير الشرق وتقديمه خارج سياقاته الحقيقية والواقعية، بطريقة كانت تخاطب المستهلك الأوروبي وانطباعاته ومفاهيمه السائدة في تلك الفترة عن الشرق.
في الأسابيع الماضية، أطلقت منصة نتفليكس فيلم "the swimmers" للمخرجة المصرية سالي الحسيني، والذي تناولت من خلاله قصة نجاح فتاتين سوريتين في سعيهما للبحث عن حياة أفضل، بعد هربهما من الجحيم السوري، مروراً بعذابات الهجرة ومخاطر عبور البحر إلى الجنة الموعودة (أوروبا). وبعد انتهائي من متابعة الفيلم لم أجد اختلافاً كبيراً بين الفيلم ولوحة "ساحر الأفعى" التي تحدّث عنها سعيد في لقائه، باستثناء الجانب الفني.
فمن الناحية الإنتاجية لا يمكنني أن أشيد وأمتدح جمال الفيلم، فهنالك معايير عالمية سينمائية، وحقق الفيلم بصرياً وإنتاجياً هذه المعايير، لكنه لم يصل إلى مرحلة الجمال السينمائي، إلا أنّ لوحة جيروم تعتبر من أهم إنتاجات الفن الكلاسيكية. أما على صعيد القصة والمحتوى، فقد حقّق الفيلم نجاحاً في تطبيق قائمة المعايير الغربية لنجاح المحتوى، وأهمها الحيادية والنسوية، تماشياً مع المفاهيم الحديثة المرتبطة بالقصص الإنسانية.
ادّعى البعض أنّ نجاح العمل ونسويته أرّقت الكثيرين، ولكنني أرى أنّ ما أزعج الجمهور السوري هو حيادية العمل وليس نسويته، لأن نجاحه (إذا كان ناجحاً أصلاً) كان على حساب اختزال الواقع السوري واجتثاث القصة من واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تماشياً مع ذائقة المستهلك الغربي لصالح إعادة رسم وتأكيد الرواية الغربية عن الصراع السوري، دون ذكر المتسبّب الرئيسي في مقتل أكثر من مليون سوري، قصفاً وتجويعاً وتهجيراً، وكأنه صراع متكافئ في القوة بين طرفين!
الثقافة المحلية الأصيلة والأصلية هي مفتاح النجاح والوصول إلى العالمية
يمكننا أن نقول إنه نوع من الاستشراق السينمائي، حينما يقوم أحدهم برواية قصصنا وحكاياتنا بالطريقة التي يراها مناسبة لجمهوره، دون الاكتراث لحقيقتنا أو واقعنا، وهذا بالضبط ما فعله جيروم في لوحته (والمصيبة تكمن بأنّ البعض يقوم بإعادة اقتباس هذه النظرة ويتبناها)، فموضوع النجاح النسوي على سبيل المثال الذي تمّ تأطيره داخل العمل، والذي قبل الجميع فيه بطريقة ما، كان مشابهاً للكليشيهات السينمائية الغربية ونجاحات النسوية البراقة، ولكن لو عدنا إلى واقعنا وبحثنا عن نجاحات المرأة السورية.. فأتصوّر أنّ السيدة سميحة سباغ، التي تبلغ من العمر 65 عاماً، وفقدت أولادها الستة، وما زالت تقف على أقدامها وتقوم بإعالة 19 حفيدا، أكبرهم عمره 15 سنة، هي قصة ملهمة وقصة نجاح منقطعة النظير. لكن المشكلة تكمن في أنّ قصة السيدة سميحة ليست براقة كفاية في أعيننا لنعتبرها قصة نجاح وصمود أو نأخذها بالاعتبار ونقوم بصناعة فيلم عنها!
هنالك شيء لا يفهمه السينمائيون أو العاملون العرب والسوريون في هذا المجال، وفهمه آخرون كحاتم علي وأصغر فرهادي (رائد السينما الإيرانية)، ومفاده أنّ الثقافة المحلية الأصيلة والأصلية هي مفتاح النجاح والوصول إلى العالمية، فحاتم علي وأصغر فرهادي لم يتبنيا الكليشيهات والقوالب الغربية في إنتاجاتهما، بل كانت أعمالهما مغرقة في المحلية، ولهذا السبب احترمهما الجمهور والنقاد على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي، فهما لم يتنكرا لمجتمعهما، بل تحدثا عنه بواقعية وشفافية وقدما لنا مشكلاتنا وفشلنا ونجاحاتنا بدون أي قوالب غريبة عن بيئتنا.
يقول إدوارد سعيد في مقابلته إنّ المشكلة في الانطباعات عن الشرق التي أطرها الفنان جيروم في لوحته "ساحر الأفعى"، وصلت إلى الشرق نفسه، وعاد الكثيرون واقتبسوها وأصبحت هذه اللوحة واحدة من أهم اللوحات التي تتم طباعتها وتعليقها في بيوت الأغنياء والمثقفين والنخب العربية.
أنا لا أنكر المخاطر التي مرّت بها الشابتان السوريتان في رحلة بحثهما عن حياة وواقع جديد، وأنا سعيد لما حققتاه في حياتهما الجديدة، وسعيد لكل من استطاع النجاة من المحرقة السورية، ولكن السيدة سميحة وأمثالها ممن يعدّون بمئات الآلاف، لديهم الأحقية أيضاً في نيل حيز من اهتمامنا وتعاطفنا وجهدنا في الكلام والحديث عنهم، وتحويلهم إلى أيقونات نوثّق من خلالها سردياتنا السورية.