الروحانية بين أنسنة الإلهي وتأليه الإنساني

15 سبتمبر 2023
+ الخط -

يلجأ الكثير من المفكرين اليوم إلى الاحتماء بالماضي، وخاصة أولئك الذين كانوا متحمسين للمشروع الغربي في ما مضى. وعندما بدأت جدران الأخير بالتصدّع، عادوا إلى التراث الإسلامي تباعاً، للنبش والبحث عن جوانب مشرقة فيه، فيما تطلّع آخرون إلى إيجاد حلول من التراث الإسلامي لمشكلات معاصرة، يعيشها الواقع الغربي، مثل مشكلة الأخلاق، العنف، البيئة...

 ولا داعي للتذكير هنا بكمية الأطروحات التي تنجز في بعض الجامعات الغربية اليوم حول شخصيات إسلامية، مثل شخصية ابن عربي أو ابن حزم، أو حتى شهاب الدين القرافي، أو غيرهم من أعلام الحضارة الإسلامية، وهذا يطرح السؤال التالي: عمّ يبحث هؤلاء في التراث، وهم الذين كانوا يرونه غير صالح فيما سبق؟

قبل أن نسترسل في التحليل، لا بد من الإشارة إلى أمر مهم، وهو أنّ الكثيرين يعتقدون اليوم، أنّ إقبال هؤلاء الباحثين على التراث الإسلامي هو فأل خير، غير أنّ الأمر ليس كذلك للأسف. فإذا ما دققنا في الأغراض والدوافع التي تحرّك هؤلاء الباحثين، سنكتشف، لا محالة، أنّنا مخطئون، وإن اختلف هؤلاء عن المستشرقين، والذين بدورهم أُعجب بهم الكثيرون من المفكرين، حتى تبيّنت دوافعهم الحقيقية، بأنّ دراساتهم لم تكن إلا بغرض بسط السيطرة على العالم العربي لا غير، والتي لا زالت آثارها مستمرة إلى اليوم.

إنّ ما تعيشه الدراسات الإسلامية اليوم، هي محاولة لعلمنة التراث الإسلامي، أو محاولة لأنسنته، أو إعطائه الصبغة الإنسانية. وهنا لا بد من ذكر الفرق بين مصطلحي الإنسانية والإنسانوية، إذ غالبا ما يتم الخلط بينهما في العالم العربي. فأحدهما يعني الاهتمام بالإنسان، بينما الآخر يعتقد بمركزية الإنسان في الكون، والأمران ليسا سواء كما لا يُخفى على المختصين، فالحديث عن اهتمام الدين الإسلامي بالإنسان، أمر لا يختلف فيه اثنان، بينما الحديث عن البعد الإنساني للدين، كما يدعو المفكر الراحل محمد أركون، هو محلّ الإشكال.

ما تعيشه الدراسات الإسلامية اليوم، هي محاولة لعلمنة التراث الإسلامي، أو محاولة لأنسنته

للأسف هذه النزعة وهي أنسنة الدين، تقابلها نزعة أخرى وهي تأليه الإنساني، فإذا كانت الأولى تحاول إضفاء النزعة الإنسانية على الأديان، فإنّ الأخيرة تضفي الطابع الإلهي وتقدّس الإنساني، وبسبب ذلك أصبحنا نتحدّث عن مفاهيم معاصرة أصبحت بمثابة آلهة جديدة، منها العقل، الحرية... وغيرها من المفاهيم الكثيرة، في حين أنّها في الحقيقة أخذت مكان الأديان، وكأنّنا الآن في محاولة لتبديل المفاهيم المقدّسة القديمة بأخرى جديدة لا غير، وذلك بعدم هدم ما سبق، تحت طائلة أنها غير صالحة، أو أننا نعطيها الصبغة الإنسانية، حتى تتماشى مع واقعنا اليوم!

بين هؤلاء وأولئك تضيع الروحانية الحقة، أو يضيع مفهوم الدين الحق، هذا الأمر فصل فيه الفيلسوف الفرنسي، لوك فيري في كتابه، "الإنسان المؤله أو معنى الحياة"، حيث تتبّع هاتين النزعتين، وإن كان في تحليلاته يغلب عليه الاستشهاد من المسيحية، لكن في الحقيقة الأمر لا يختلف كثيراً، لأن الأمر الغريب هو أن ينخرط أناس يعتقدون أنهم يدافعون عن الدين في هذا الأمر، وما هم إلا خادمون لهذه التيارات، وهذا ربّما هو الذي جعل المفكر الأردني، جوزيف مسعد يتحدث عن الإسلام في الليبرالية، حيث يرى أنّ مفهوم الإسلام كما نفهمه اليوم هو نتاج جهود المستشرقين في القرن التاسع عشر.

في بداية السبعينات، كانت قد بدأت تنتشر الأديان الشرقية القديمة في أوروبا، مثل البوذية والهندوسية وغيرها، وذلك بعدما كانت قد عرفت هذه الأديان اهتماماً مبالغاً به من قبل المستشرقين، حيث إنهم انكبّوا على دراستها وتحقيق كتبها، وهم في الحقيقة كانوا يبحثون عن روحانية بدون إله، بعدما لم يعد يطيق الإنسان وجود سلطة أعلى منه، ونفس الأمر يجري الآن مع الدين الإسلامي، إذ ثمّة جهود ليكون ديناً بدون سلطة عليا، وهذا سرّ الإقبال على التصوّف الفلسفي والاهتمام به وحده دون غيره، وكأنه الممثل الوحيد للدين الإسلامي.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".