الرجال: بين التحكّم في المشاعر وحريّة التعبير عن الأحاسيس
قليلةٌ هي الشهادات والسير الذاتية والتدوينات... التي يُعبّر فيها الرجال عن مشاعرهم ومُعاناتهم وأوجاعهم، وهم يواجهون تجاربَ الألم والمرض والإحساس بالعجز والفقد... وهو أمرٌ راجعٌ إلى التنشئةِ الاجتماعية التقليدية التي تفرض قُيودًا صارمةً على الصبيان والفتيان والشبّان والكهول وتعلّمهم طرائق كبح مشاعرهم وتراقب سلوكهم حتى لا يتعارض مع المعايير الاجتماعية والجندرية التي تُشكّل هويّة الرجل.
وبناء على هذه التربية، فإنّه ليس من السهل على الرجال المُتماهِين مع الأنموذج المعياري للرجولة الإفصاح عن مشاعرِ الخوف والوهن والإحساس بالضعف والعجز.. لأنّ العواطف ''الرقيقة'' تقترن في مخيالهم بالنساء، في مقابل ارتباط العقلانية وضبط النفس بالرجال.
غير أنّ التحولات التي تمرّ بها المجتمعات المعاصرة وكثرة الإكراهات والضغوط والأزمات دفعتْ فئة من الرجال إلى كسرِ حواجز الصمت وممارسة الحكي، فاستغلّوا وسائل التواصل الاجتماعي للتحرّر من سياساتِ التصميت، التي يُعتقد أنّها تُفرض على النساء فقط. وهكذا صرنا نُتابع شهادات رجال يكشفون فيها عن مشاعر الخجل التي تنتابُ المريض حين تُجبر ابنته على تغيير حفاظاته بعد أن صار طريح الفراش، واستمعنا إلى رجالٍ يتحدّثون عن مخاوفهم ومعاناتهم اليوميّة، وهم يتعرّضون لجلساتِ العلاج الكيميائي بعد إصابةٍ بالسرطان، وبلغتنا قصص رجال يواجهون الوصم والإهانة والإذلال لأنّهم أصيبوا بالعنة (العجز الجنسي)... وتوفّرت شهادات رجال أصيبوا بأزماتٍ قلبيةٍ نجمتْ عنها حالات شلل جعلتهم قاصرين عن الحركةِ وتابعين للآخرين... وهي قصص وشهادات تنسف جندرة المشاعر، إذ ثمّة حاجة إنسانية لدى الجميع (بما في ذلك الحيوانات) تدفعهم إلى التعبير عن أحاسيسهم بقطع النظر عن الجنس والسنّ والعنصر والطبقة... كما أنّ هذه التدوينات والقصص والشهادات تُربك الثقافة الاجتماعية وتتعارض مع النصائح المتداولة في عدّة مواقع وصفحات فيسبوكية، والمُوجّهة أساسًا إلى الرجل حتى يصمد ولا يظهر خجله أو ضعفه أو خوفه أو انهياره أو قلقه. وتُمثّل هذه النصائح صورة من صور التربية على قيم الرجولة ومعانيها ''الحقيقية" حسب المُروّجين لها.
ثمّة تنشئة اجتماعية تقليدية تفرض قُيودًا صارمةً على الصبيان والفتيان والشبّان والكهول وتعلّمهم طرائق كبح مشاعرهم
ولأنّ هؤلاء الرجال خالفوا التوقّعات الاجتماعية وأنموذج الرجل "الهركولي" (البطل اليوناني Heracles) وتجرّأوا على "كسر نواقض الرجولة"، فإنّهم يتعرّضون للعنفِ اللفظي والمعنوي وحتى المادي من ممثلّي/ات الأيديولوجيا الذكورية، وهو أمر يُقيم الدليل على أنّ أغلب النساء يُمثّلن حارسات النظام البطريركي ويمارسن العنف مثلهن مثل الرجال، ضدّ كلّ صبيّ أو شابّ أو رجل لا ينضبط للأنموذج المنشود، ويتبنّى نمط رجولة "رخوة"، فلا يجد حرجًا في التعبير عن مشاعره وعواطفه، كما أنّهن لا يتوانين عن مؤازرةِ المدافعين عن البطريركية، فيَعمدن إلى إقصاء كلّ أصحاب الهويّات اللانمطية من عالم الرجال ''الكُمّل'' ونعتهم بأبشع النعوت.
ولكن تأتينا اليوم، الدروس من غزّة لتُبيّن لنا أنّ المآسي والمُعاناة والمحن تكشف عن الوجه الآخر المغيّب والمنسيّ والمهمل في ثقافةٍ تحرص على إجبار الرجال على كتم المشاعر. فالرجال في زمن الحروب والإبادة يرثون، لا الأمّهات فحسب، بل جميع النساء، بمن فيهنّ الزوجات والطفلات، وينتحبون ويعبّرون عن الشعور بالحزن والوحدة والألم واللوعة والوجع... لا وقت لديهم للاصطفاف وراء أنظمةِ التمييز بين الجنسين وبين مُمثّلي مختلف أنماط الرجولة، ولا وقت لديهم لمراقبةِ سلوك غير المنضبطين للمعايير الجندرية... إنّهم يسرقون بعض الوقت ليكتبوا تدوينات تعبّر عن أحزانهم أو لينشروا بعض الفيديوهات التي تصوّر تفاعلهم مع بشاعةِ ما يحدث ولا يخجلون من ذرفِ الدموع والتعبير عن مشاعر الغضب والقهر والخذلان.
في أزمنةِ الحرب والكوارث والمحن يتحّرر الغزّاويون/ات من ثقل الأيديولوجياتِ والتقاليد والمعايير التي تمنعهم من التعاطف والتآزر وإظهار المشاعر والتعبير عن الأحاسيس... يتصرّفون وفق ما تُمليه عليهم مشاعرهم الإنسانية الصادقة وأحاسيسهم الأصلية ويتفاعلون بتلقائيةٍ، فيكونون خارج أنظمة التسييج الاجتماعي والديني والأيديولوجي... وخارج بوتقة النفاق والرياء الاجتماعي.