الذكاء الاصطناعي: الحليف الذي لا يرحم في معركة المناخ

13 ديسمبر 2024
+ الخط -

إنّ الكوارث الطبيعية لم تعد ضربات عشوائية تهزّ الأرض على حين غرّة، بل أضحت نذيرًا يوميًا يقتحم نشرات الأخبار وينشر الرعب في أرجاء الكوكب. تتوالى الأعاصير كما لو أنّ المحيطات تثور لاسترداد ما سلبته المدن الساحلية. تندلع الحرائق في غاباتٍ لم تعرف يومًا طعم الرماد. ترتفع البحار فتلتهم شواطئ كانت بالأمس القريب ملاعب للأمل والحياة. وسط هذه الفوضى التي لا تُفرّق بين شمال وجنوب، وبين غني وفقير، يتقدّم الذكاء الاصطناعي ليُعيد تعريف أدوات المواجهة، حاملاً في جعبته ما قد يُنقذ العالم أو يفاقم معاناته، بحسب كيفيّة توظيفه.

المناخ: معركة البقاء الأخيرة

منذ عقود، حذّر العلماء من أنّ تغيّر المناخ سيتحوّل من أزمةٍ مؤجّلة إلى كارثةٍ حاضرة. كان البعض يتجاهل أصواتهم، ظنًا أنّ الكوكب أوسع من أن تستهلكه أفعال الإنسان. لكن الواقع كان أشدّ قسوة؛ فالتغيّر المناخي أصبح اليوم عدوًا يهاجم دون إنذار، متسلّحًا بحرارة الأرض المُتزايدة، وجفاف الأنهار، وتصحّر الأراضي الزراعية. أصبحنا نعيش في عالمٍ تتصارع فيه الطبيعة مع نفسها، مدفوعةً بقوى لا نراها لكنّها تتغلغل في كلِّ شيءٍ، من عمق التربة إلى أعالي السماء.

الذكاء الاصطناعي: من ترف معرفي إلى سلاح إنقاذي

قبل سنوات قليلة كان الذكاء الاصطناعي يُحصر في قاعاتِ المؤتمرات العلمية وأروقة الشركات التقنية الكبرى، أداة تكنولوجية للرفاهية وتحسين الخدمات التجارية. لكن مع تسارع الكوارث الطبيعية، أعاد العلماء توجيه هذا السلاح الرقمي الجبار نحو أكبر تحدٍّ يواجه الإنسانية: مواجهة تغيّر المناخ.

أصبح التغيّر المناخي اليوم عدواً يهاجم دون إنذار، متسلّحاً بحرارة الأرض المُتزايدة، وجفاف الأنهار، وتصحّر الأراضي الزراعية

قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميّات هائلة من البيانات بسرعة تتجاوز الإدراك البشري جعلته سلاحًا لا غنى عنه. أصبح بالإمكان التنبؤ بالأعاصير قبل حدوثها بأيّام، بل ورصد اتجاهاتها وسرعتها بدقة مذهلة. في عام 2022، تمكنت أنظمة الذكاء الاصطناعي من توقّع أعنف الأعاصير في المحيط الأطلسي قبل وقوعه بأسبوعين، وهو ما أنقذ آلاف الأرواح وقلّل الأضرار المادية بشكلٍ هائل.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تطوّرت الأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لتراقب ذوبان الجليد في القطب الشمالي وترصد أدق التغيّرات المناخية التي لا يمكن للعين البشرية إدراكها. كانت هذه الأنظمة السبب في اكتشاف تسارع ذوبان الصفائح الجليدية بمعدلاتٍ كارثية، ما أعطى البشرية فرصة ذهبية لإعادة التفكير في سبل التكيّف مع القادم.

ثورة زراعية بأعين رقمية

الزراعة، التي تعدّ شريان الحياة للبشرية، لم تسلم من براثن التغيّر المناخي. فالأمطار التي كانت يومًا تعطي الحياة، باتت سيفًا ذا حدين: إمّا شُحا يحوّل المزارع إلى صحارٍ قاحلة، أو فيضانات مدمّرة تغرق المحاصيل وتترك الأرض عقيمة.

هنا يدخل الذكاء الاصطناعي راصداً لا يعرف الملل أو الخطأ. باستخدام الأقمار الصناعية والطائرات المُسيّرة، يمكنه تحليل جودة التربة وتوقّع المحاصيل المناسبة لكلّ موسمٍ، ورصد مستوى الرطوبة وتوقيت الري بدقة لا تقبل الهدر. في بعض المناطق التي تعاني من الجفاف المزمن في أفريقيا والهند، أدّت هذه التقنيات إلى زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 70%، وانتشال آلاف العائلات من براثن الفقر.

أصبح بالإمكان التنبؤ بالأعاصير قبل حدوثها بأيّام، بل ورصد اتجاهاتها وسرعتها بدقة مذهلة

الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بالمراقبة، بل يقترح أفضل سبل الزراعة، وحتى نماذج للزراعة العمودية حيث تُزرع المحاصيل في بيئاتٍ مغلقة تتحكّم في المناخ الداخلي، ما يقلّل الاعتماد على تقلبات الطبيعة الغادرة.

المدن: صمود أمام كوارث لا ترحم

المشهد في المدن الكبرى يُنذر بالخطر. فنحن أمام جبهتين لا تعرفان الرحمة: فيضانات قد تغمر أحياء بأكملها وجفاف قد يحرم الملايين من المياه العذبة. أصبح تصميم المدن التقليدي عقبة أمام مواجهة غضب الطبيعة، ما دفع المهندسين إلى إعادة صياغة مفهوم المدينة الذكية باستخدام الذكاء الاصطناعي.

أنظمة الصرف الذكية لم تعد مجرّد أنابيب تحت الأرض، بل أصبحت شبكات متصلة بالإنترنت تُدار بأنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التنبؤ بكميّات الأمطار قبل هطولها وتوجيه المياه إلى المناطق الأكثر احتياجًا. في هولندا، التي تقف على حافة البحر، تعتمد الحكومة على أنظمة ذكاء اصطناعي تتحكّم في السدود والمضخات، وتراقب منسوب المياه على مدار الساعة لمنع غرق المدن الساحلية.

عدالة مناخية أم استعمار تقني؟

ورغم هذا الأمل الذي تحمله التقنيات الحديثة، يظلّ السؤال الأخلاقي حاضرًا بقوّة: من يملك الذكاء الاصطناعي في عالمٍ تتحكّم فيه شركات عملاقة ودول غنية؟ هل سيكون الذكاء الاصطناعي أداة إنقاذ للجميع أم امتيازًا لمن يستطيع الدفع؟

في معركة المناخ، لا مكان للانتظار أو التردّد، إما أن نستثمر في هذه التقنيات بحكمةٍ وعدالة، أو نترك الكوكب يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة ما صنعته أيدينا

إذا ظلّت هذه التقنيات محصورة في أيدي قلّة، فإنّ الذكاء الاصطناعي قد يتحوّل إلى سلاح يُعمّق الفوارق بين الأغنياء والفقراء، حيث تحصل المدن المتقدّمة على أنظمة الإنذار المبكّر والشبكات الذكية، بينما تترك الدول الفقيرة تواجه الكوارث وحدها بلا حماية.

فرصة أخيرة في سباق مع الزمن

الذكاء الاصطناعي ليس حلاً سحريا ولا ترياقا يزيل أوجاع الأرض بين ليلة وضحاها، لكنه الأمل الأخير الذي يمكن للبشرية أن تتمسّك به. قد يكون الفرق بين مستقبل مضيء وآخر غارق في الظلام. في معركة المناخ، لا مكان للانتظار أو التردّد، إما أن نستثمر في هذه التقنيات بحكمةٍ وعدالة، أو نترك الكوكب يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة ما صنعته أيدينا. 

الفرصة لا تزال قائمة، لكن الساعة لا تتوقف.

باحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي في لندن
علي عيسى
مهندس إلكترونيات فلسطيني وباحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي وتطوير الأدوية، مقيم في لندن.