الحبُّ كمعضلةٍ فلسفيّة.. هل نخسر الحريّة؟
سعيد ناشيد
لا يراودني شك في أنّ عبارة "يختلف الفلاسفة في كلِّ شيء"، هي أسوأ مدخل إلى الفلسفة، إذ تبعثُ اليأس ابتداءً من إمكانيّة وجود أيّ فائدة تُرجى من الإنصاتِ إلى أولئك الذين لا يتفاهمون حول أيّ شي! والواقع أنّ الفلاسفة يقدّمون تمارين متنوّعة لأجل تنمية القدرات نفسها، القدرة على التفكير، وبالتالي التقليص من الأوهام، القدرة على العيش، وبالتالي التقليص من الشقاء، والقدرة على العيش المشترك، وبالتالي التقليص من العنف. إنّ اختلاف المدرّبين الرياضيين لا يمزّق العضلات، ولا يشوّه الجسد، بل يصنع الرياضي المتكامل.
على هذا الأساس، يمكنني بكثيرٍ من الثقة تأكيد اتفاق الفلاسفة على أنّ غاية الفلسفة أن يحقّقَ الإنسان أعلى قدرٍ مُمكنٍ من الحريّة والسعادة. فماذا يقصدون؟
الملاحظُ هنا وجود سوء فهم ثانٍ يُعاني منه الفلاسفة، بسبب تلاعب الوسطاء بين النصوص والقرّاء، مفاده أنّ مفاهيم الفلاسفة تُحلِّق في أعالي التجريد، وأنّ توضيحاتهم تُوغل في أعماق الغموض، وأنّ الأمور بطبعها كذلك. إلّا أنّ الأمور ليست كذلك. فليس هناك ما قد يجعل محاورات أفلاطون، أو منهج ديكارت، أو أخلاقيات سبينوزا، غامضة سوى مزايداتِ بعض الشارحين، وبالتالي شارحي الشارحين.
الحريّة لدى الفلاسفة، هي بكلِّ بساطةٍ، أن يكون الإنسان سيّد نفسه، بمعنى أن يكون قادرًا على التحكّم في انفعالاته حين ينفعل، أن يكون قادرًا على ضبطِ رغباته حين يرغب، وأن يكون قادرًا على تنظيم أفكاره حين يفكّر.
اتفاقُ الفلاسفة على أنّ غاية الفلسفة أن يحقّق الإنسان أعلى قدرٍ مُمكنٍ من الحريّة والسعادة
السعادة لدى الفلاسفة هي بكلِّ بساطةٍ، كذلك أن يحقّق الإنسان قدرًا كافيًا من الطمأنينة والسلام الداخلي، وذلك لأجل أن يعيش حياة جديرة بالحياة.
إذا كانت غاية الفلسفة أن يحقّق الإنسان سيادته على نفسه، وينعم بسلامه الداخلي، فسيكون الحبُّ أحد المفاهيم الأكثر إشكاليّة في تاريخ الفلسفة، طالما يثير أسئلة مستعصية بالفعل.
"منذ سرقت قلبي وأنا أتبعك"! يقول ملايين العشاق.
أفلا يمثل الحبّ نوعا من العبودية الوجدانية التي تهدّد حريّة الإنسان؟ ألا يمثّل الحبّ نوعًا من الحربِ العاطفيّة التي تهدّد السلام الداخلي للإنسان؟ ألا يبدو العاشق في نصوصِ المتصوّفة من كلِّ الديانات عبدًا ذليلًا لمعشوقه في كلِّ أحواله؟! ألا يبدو العاشق في نصوصِ الشعراء، من كلِّ اللغات، في حالةِ توتّرٍ ووجعٍ لا يداويه إلّا انطفاء النار بنارٍ ثانية، أو موت العاشقين بعد أن تسلخ النار جلودهم؟
ألا يحرم الحبّ الإنسان من حريّته الذاتية حين يربطه بإرادةِ الغير، مزاج الغير، وغيرة الغير أيضا؟ ألا يحرمه من سيادته على نفسه حين يجعله يمنح قلبه الوحيد إلى غيره، ثم يبقى تحت رحمته؟
"ارحمني"! تلك مناجاة معظم العشاق.
ألا يحرمنا الحبّ من فرصة السلام الداخلي حين يغمرنا بالمخاوف التي تقضّ المضاجع؟
ليس مستغربًا أن تكون علاقة الفلاسفة بالحبِّ متوتّرة، فقد مجّدوه لكنّهم في الآن نفسه توجّسوا منه
ليس مستغربًا أن تكون علاقة الفلاسفة بالحبِّ متوتّرة، فقد مجّدوه لكنّهم في الآن نفسه توجّسوا منه، وكانت لديهم مفارقات ملفتة: سبينوزا الذي أقام فلسفته على الحبِّ هان عليه أن يفكّ ارتباطه بمعشوقته لئلّا يكذب بخصوص هويّته الدينية؛ كانط الذي عاش بأناقة، طلب من معشوقته مهلةً للتفكير قبل اتخاذ قرار الزواج منها، لكنه تأخر لسنوات، ولما ذهب إليها كانت قد تزوّجت وأنجبت. كركغارد الذي أقام فلسفته كلّها على الحبِّ، هجر خطيبته في ليلةِ زفافهما لئلا يربط قلبه بأيّ شيءٍ زائل. سارتر وسيمون دي بوفوار اضطرا إلى نصف زواجٍ، ونصف تعلّقٍ، لأجل نصف ألم.
إلا أنّ الفلاسفة أنفسهم هم أوّل من يدرك أنّ الحبّ طاقة حيويّة للنمو والحياة. بل الواضح أنّ الرهان على الحبِّ قد عظُم في الفلسفة الراهنة، حيث يرى معظم الفلاسفة في الحبِّ رهانًا أساسيًا لأجل إنقاذ الإنسان من مخاطر العنف، الحرب، الفاشيّة، التقنيّة، الذكاء الاصطناعي، الإرهاب العالمي، والعدميّة. ما يجعل الكتابات المعاصرة تحفل برهانٍ فلسفي كبير على الحبّ.
رهانٌ مجيد بالفعل لكنه محفوف بالمخاطر والنكسات بسبب الطبيعة التوتّرية للحبِّ ذاته، وبسبب الوضعيّة الإشكاليّة لمفهوم الحبّ.
ذلك أنّ السؤال هو: كيف يمكن للإنسان أن يستمتع بالحبِّ دون أن يفقد سيادته على ذاته، دون أن يفقد سلامه الداخلي، دون أن يخسر أحلامه، ودون أن يخسر في النهاية جودة الحياة، والتي هي غاية الحياة؟
نتابع في الحلقة القادمة.