التوتر العصبي واستعمالات الجسد

20 ديسمبر 2023
+ الخط -

 

أكثر شيء تستعمله في حياتك اليومية هو جسدك. تستعمل جسدك لكي تمشي، تجلس، تتكلم، تحمل كيساً أو حقيبة، تفتح الباب أو النافذة، تكتب، تأكل، تسبح، تسوق السيارة أو الدراجة، تنحني لالتقاط بعض الأشياء عن الأرض. تستعمل جسدك في ظروف عملك أيضاً، التي قد تكون شاقة أحياناً، فقد تضطر إلى أعمال الحمل والرفع والحفر والجر وغيرها، على أن استعمالات الجسد تتطلب قدرًا متفاوتًا من القوة. لكن ما معنى القوة؟

الأسلوب الشائع هو التعويل على التوتر العصبي لجلب مزيد من القوة، كما تفعل الحيوانات في أثناء القتال، غير أنّ فائض القوّة الذي يأتي من طريق التوتّر العصبي يزول بسرعة، لذلك لا تخوض الحيوانات قتالاً طويلاً. التوتر العصبي لأجل حسم سريع للقتال، رد فعل غريزي مبثوث في الذاكرة الوراثية للجسد البشري، لكنه لا ينفع إلا في حالة الأخطار قصيرة الأمد مثل أخطار الطبيعة، غير أن التعويل عليه في بيئة بشرية تستغرق فيها المعارك والتحديات أمداً طويلاً من شأنه أن يستنزف طاقة الجسد.

أرى أحيانًا إنسانًا كادحًا يحفر الأرض بجسد متوتر، يدين متصلبتين، وملامح منقبضة، كما لو كان يفترس شيئًا ما، فأعرف أنه يفترس نفسه، ويستنزف طاقته، ولن يطول الأمد قبل أن يتحول من معيل لعائلته إلى عالة عليهم كما يحدث لكثير من المستضعفين، فأميل إلى تنبيهه إن سمحت لي نظراته بذلك، ثم أود لو أقول له: التوتر العصبي يستنزف قوتك يا هذا. والخيار الأخير لك.

رفعًا للبس أوضح:

في المستوى العاطفي أدعم كل من يكافح لأجل تحسين وضعه الاجتماعي، سواء في إطار فردي أو جماعي، بل لا يزال قلبي يخفق بالحلم القديم بعالم آخر ممكن، عالم يكون فيه "لكل حسب حاجياته ومن كل حسب قدراته"! لم يسقط الحلم بالتقادم إذاً، أو ليس بعد، ولكن، إلى ذلك الحين، أو غيره، فإن دوري الذي أُقدره وأَقدر عليه، هو تشجيع الضعفاء وتمكينهم من بعض المهارات الأساسية للحياة، دون أن ينتظروا أيّ شيء من التاريخ أو السماء، ولا سيما أنّ لدى معظمهم أبناءً ينتظرون القوت مثلما هو قدر سائر الثدييات على الأرض.

فائض القوّة الذي يأتي عن طريق التوتّر العصبي يزول بسرعة، لذلك لا تخوض الحيوانات قتالا طويلا

قديمًا كان المجذفون في مراكب الأثرياء يمارسون أحد الأعمال الأكثر مشقّة. ربما تمرّد بعض أسلافنا  مبكرًا أو قبل الأوان، غير أن عصر بداية الطريق إلى الكرامة الإنسانية  كان لا يزال بعيدًا، فاهتدوا إلى محاولة التقليص من الجهد انطلاقًا من ملاحظتين:

أولًا، قوة التجذيف ليست في قوة اليدين، بل في طريقة استعمال الجسد بأسره، تمامًا كما أن رامي الرمح لا يعوّل على قوة ذراعه، بل على كيفية استعمال جسده في أثناء الرمي.

ثانيًا، يمكن توفير الجهد عبر توحيد حركات الأجساد في أثناء التجذيف، لأجل ذلك أبدعوا إيقاعًا صوتيًا جماعيًا مثل الكورال، يتألف في الغالب من حرفين، فكانت مراكب سادة الأرض تبحر على صوت كورال المعذبين في البحر.

غير أن الإيقاع الذي كان يضمن توحيد الجهد وتوفيره كان يحرر الجسد المقهور من التوتر العصبي الذي يستنزف طاقة الحياة. أكثر من ذلك، فقد أبدع المعذبون رقصات غنائية سرعان ما تبنّاها جلادوهم كعزاء لهم بدورهم في مواجهة الشرط الدراماتيكي للعيش بين أمواج البحر.

الأتعس حظًا كانوا يُكبَّلون بالسلاسل مثل الأسرى، لكنهم من صليل السلاسل ينسجون إيقاعًا غنائيًا يحمي أرواحهم من التوتر العصبي الذي لن يفيدهم طالما الرحلة طويلة.

صحيح أنهم بالمنطق الهيغلي فضلوا أن يتكيّفوا مع حياة العبودية على أن يموتوا أحرارًا، لكنهم في النهاية هم الذين واصلوا رحلة التجذيف الطويلة، ثم انعطفوا بها رويدًا رويدًا، وعلى مدى زمني طويل نحو الثورة الفرنسية، والدستور الأميركي، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

حيث لكل انتصار أجل، و"لكل أجل كتاب".

التوتر العصبي الذي قد لا ينفع إلا في القتال لثوان معدودة أو دقائق محدودة مثلما يحدث في مملكة الحيوانات، يصبح مجرد عبء قاتل حين يتعلق الأمر بمعارك غايتها القصوى المساهمة بتعديل حركة التاريخ. 

لذلك أقول لك أنت بالذات:

حين تشعر بالتوتر العصبي، فاعلم أنك فشلتَ في التكيُّف المطلوب.

اِشتغل على ذلك.

 

سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد