التعاطف في التفاصيل الصغيرة
سعيد ناشيد
يحتاج الضعفاء إلى تطوير قدرتهم على المقاومة والبقاء في عالمٍ لا يزال للأسف لم يتخلّص من أسطورة القوة، وذلك رغم أنّ القوة بدأت فعلًا تفقد قدرتها على حسم الأمور، وتحلّ مكانها القدرة على التكيّف في كلّ مجالات الحياة، من الصحة والجسد إلى التنمية والاقتصاد.
لكن، لا يكفي أن تكون القضايا الكبرى للضعفاء عادلة، بل ينبغي ألّا تكون كبرى إلى درجة التعتيم ومن ثم الإحباط، ذلك أنّ السبب الأساسي للإحباط الذي سرعان ما يغمر المستضعفين إزاء قضاياهم، لا يكمن في أنّ قضاياهم عادلة أكثر من اللزوم وسط عالمٍ غير عادل، بل في كونها قضايا كبرى أكثر من اللزوم وسط حياةٍ لا تنمو إلا في التفاصيل الصغرى والدقيقة.
حين تشرح لإنسانٍ جائع قوانين الرأسمالية والإمبريالية فلا تنسَ أنّه إذا لم يأكل فسيأكلك قبل أن تنهي كلامك.
حين تشرح للاجئ أو نازح قواعد الصراع الدولي، لا تنسَ أنه في مساء ذلك اليوم سيحتاج أكثر إلى خيمة تحميه من البرد، وأنه بعد ذلك كلّه إذا لم يرَ قدرتك على المقاومة في رباطة جأشك وهدوء أنفاسك وسيادتك على نفسك، فلن يصدّقك طويلًا حتى وإن جيّشته وهيّجته في الأول.
حين تتجوّل مع صديقك وسط الأدغال الوعرة وتناقشان آخر معطيات فيزياء الكون، لا تنسَ أن جهلك بالإسعافات الأولية عند الضرورة قد يضرب في الصفر كلّ معرفتك حول الكون والكونيات.
هنا يكمن مغزى سقوط طاليس في الحفرة حين كان يتأمل النجوم. ومغزى الحكاية أنّ الحفرة تنبيه إلى أنّ الهدف الأوّلي للمعرفة هو حفظ الحياة.
لا ينبغي أن ننسى أنّ المعارك لا تُحسم في الاستراتيجيات الكبرى مهما بلغ ذكاؤها، بل تُحسم في أدق التفاصيل، وأحيانا في "أتفه" التفاصيل أيضا
لذلك فإنّ القضايا الكبرى والعادلة للضعفاء لا ينبغي أن تكون كبرى إلى درجة عدم رؤية الحُفر والألغام التي هي من صميم الحياة نفسها قبل أن تكون مؤامرة سياسية، بل كلّ القضايا هي معارك في التفاصيل. فلا ينبغي أن ننسى أنّ المعارك لا تُحسم في الاستراتيجيات الكبرى مهما بلغ ذكاؤها، بل تُحسم في أدق التفاصيل، وأحياناً في "أتفه" التفاصيل أيضاً، وتحتاج بالتالي إلى قدرات غير تقنية، غير تكنوقراطية: الذكاء العاطفي، الخيال الإنساني، النباهة الحسية، الحدس الداخلي، مهارات التواصل، إلخ.
في عام 2022، بكى العالم كلّه لأجل طفل مغربي ظلّ عالقًا في بئر بمنطقة شفشاون شماليّ المغرب، ليس لأنّ عذابه هو الأكبر في عالم يموت فيه يوميًا ملايين الأطفال، بل هناك سبب آخر ينبغي استحضاره في أثناء التسويق للقضايا العادلة:
في حالةِ وفاة ملايين الأطفال بالأمراض وسوء التغذية والحروب، فإنّ مشاعر اليأس هي التي تطغى على النفوس، حيث لا شيء يمكن فعله، أو بالأحرى لا يمكن فعل الكثير، لكن في حالة طفل عالق في البئر، هناك بكلّ تأكيد ما يمكن فعله حتى تنتهي الحكاية بسلام.
لقد أثبتت كثير من التجارب أنّ مشاعر التعاطف تتحرّك حين يتعلّق الأمر بمعاناة شخص بعينه، وبحيث يمكن فعل شيء محدّد، أكثر ما تتحرّك حين يتعلّق الأمر بآلام تصبح مجرّد أرقام، حتى ولو كانت بالآلاف: عدد القتلى، عدد الجرحى، عدد اليتامى، إلخ.
حين يتعلق الأمر بالأرقام يختفي الإنسان، ويختفي معه تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان
تحويل الضحايا إلى أرقام هو الفخ الكبير الذي تقع فيه بعض وسائل الإعلام التي تحاول الدفاع عن بعض المستضعفين في الأرض، إلا أنّ النتائج في مستوى المشاعر تأتي عكسيّة.
حين يتعلّق الأمر بالأرقام يختفي الإنسان، ويختفي معه تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان.
الرأي العام بأسره، سواء في الغرب أو الشرق، قد لا يكترث بمآسي الفلسطينيين، أو على الأقل لا يكترث كما ينبغي، وهذا واقع مؤلم بالفعل، لكن حين يتعلّق الأمر بحكاية محدّدة لها اسم شخصي وملامح شخصية، من قبيل إنقاذ حق الحياة لرضيعة محدّدة في ظروف محدّدة، أو حق التمدرس لطفلٍ محدّد في ظروف محدّدة، فقد يتحرّك الضمير العالمي بأسره. لذلك السبب لاحظنا كيف أن صورة الطفل السوري إيلان الذي وُجد ميتًا على أحد الشواطئ التركية بعد أن غرق القارب بأهله قد أبكت العالم كلّه، في الوقت الذي تحوّل فيه آلاف الضحايا في جحيم الألم السوري إلى مجرّد تطوّرات بلا تفاصيل، وأرقام بلا ملامح.
لا علاقة للأمر بأي نوع من النفاق كما يتصوّر البعض، بل من صميم الطبيعة البشرية أنّ التعاطف الإنساني يحتاج إلى موضوع محدّد في المكان، وأمل محدّد في الزمان، وذلك بمعزل عن الأرقام الكبرى والمفاهيم الكبرى، التي تسكن العقل أكثر ما تسكن الأحاسيس.
من التفاصيل الصغيرة جدًا، والدقيقة جدًا، والبسيطة جدًا، قد يتغيّر كل شيء ولو بعد حين
تلك طبيعة الحياة نفسها، التي تريدنا أن نتعامل مع كلّ جرح على حدة، بدل أن نحلم طول الأوقات والصيحات بعالمٍ بلا جروح.
عوض أن نتذمر من تلك المعادلة التي قد تنتهي إلى تجزيء التعاطف الإنساني، يقتضي الواجب أن نحسن استثمارها بكامل الثقة في التفاصيل، وفي عامل الزمن أيضاً.
ذرة صغيرة كانت كافية لكي ينبثق الكون بأسره خلال ملايير السنين، وبذرة صغيرة قد تنتج غابات فسيحة خلال ملايين السنين، ورفرفة فراشة ضعيفة في مكانٍ ما قد تنتج إعصارًا في مكان آخر خلال مئات السنين.
وإليك القاعدة في مستويات العلم، والعبرة في مستويات الحياة:
من الضعف الذي يقترب من اللاشيء قد يظهر كلّ شيء.
ومن التفاصيل الصغيرة جدًا، والدقيقة جدًا، والبسيطة جدًا، قد يتغيّر كلّ شيء، ولو بعد حين.