الترامبية... من الكوميديا إلى الدراما
أثارتني أحداثُ محاولةِ اغتيال الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، خلال تجمّع انتخابي، السبت الماضي، في ولاية بنسلفانيا (شمال شرق الولايات المتحدة)، حيث ظهر وأذنه اليمنى ملطخةً بالدماء، بعد إصابته بطلقٍ ناري.
وليس هذا هو الحادث الأوّل من نوعه في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تعرّض عدد من رؤساء الولايات المتحدة الـ46 لمحاولاتِ اغتيال، نجحت أربع منها، وفشلت أخرى، لكن ما يثيرُ الاهتمام والمتابعة، هو شخصية ترامب المثيرة للجدل، سواء من خلال تصريحاته أو مواقفه من عددٍ من القضايا الدولية.
وذكرتني هذه الواقعة بالنهاياتِ الحزينة لمجموعةٍ من الأفلام الرومانسية التي تعرف نهايةً مأساوية، بموتِ البطل أو البطلة، وأحيانًا أخرى تعرف نهايةً سعيدة تجمعُ البطل مع البطلة، في مشهدٍ ختامي يتمناه الكلّ، وهي استعارة يمكن تقديمها في تناول المشهد السياسي الانتخابي لترامب وواقعةِ محاولة اغتياله.
أصبحت "الترامبية"، الظاهرة السياسية التي لا تموت، مغريةً بالتناول والدراسة والتحليل، فمنذ ظهور ترامب في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأميركية ونحن نعيش على إيقاعاتها، إذ انتقلت من جغرافية الولايات المتحدة إلى العالم، وذلك بسبب قوّةِ الحدث الذي يصنعه، بحبّه للظهور والحضور الدائم، وبتقديمه سمفونية سياسية بشكلٍ كوميدي مُضحك، أو هكذا يبدو لنا، كصفةٍ مثيرةٍ لرئيس دولة قويّة وقائدة لعالمٍ يغلي بالحروب والتوترات والنزاعات المسلحة، فرسم لنفسه ملامح وخصائص ميّزته عن غيره من الرؤساء السابقين، بحكم حنكته في التمثيل، وبالأخص في الكوميديا بنكهةٍ سياسية إن صح التعبير، فاستطاع صناعة "البوز" في عالم السياسة، وذلك بتمرّده على البرتوكول الرسمي لرؤساء الدول في بعض الأحيان، وأحيانًا بانقلابه على الخطِّ الذي رسمه سابقوه، إذ فاجأ الجميع بالحديث عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوصفه "رجلا عظيما وشخصا رائعا"، وذلك بمجرّد وصوله إلى البيت الأبيض.
ترامب... بطل لفيلمٍ طويل، بسيناريو لم تحدّد نهايته بعد
لم يتوقف ترامب عند هذا الحد، بل واصل معاكسة سياسة الرؤساء السابقين الذين دخلوا البيت الأبيض، وهاجم حلفاء الولايات المتحدة، وتجنّب الحديث عن عقاب روسيا، خلال قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) 2018، التي كان موضوعها الرئيس فرض عقوبات على موسكو، بل أكثر من ذلك هدّد بالانسحاب من هذا الحلف.
استغل ترامب مرّة أخرى وباء كورونا، ليعود للواجهة، وذلك من خلال مخالفته لأمر الحجر الصحي أثناء وباء كوفيد 19، وبخرقه للبروتكول الطبي رغم إصابته.
وهكذا، شكّل ترامب حدثًا يوميًا من خلال مواقفه التي انقلب فيها على سياسةِ سابقيه، وبتمكنه من صناعةِ الحدث وإثارته للمواضيع الأكثر سخونة ومغامرته المحفوفة بالمخاطر، بالسير فوق حقلٍ من الألغام، وإن نجا منه أحيانا كثيرة، فإنّه كاد ينهي حياته السبت الماضي.
كما حوّل ترامب، خلال فترة رئاسته للولايات المتحدة الأميركية، منصّة إكس (تويتر سابقا)، إلى وجهةٍ لكلّ الباحثين والأكاديميين والسياسيين والفضوليين وغيرهم. فالكلّ يراقب بشكلٍ يومي كتابته لبضعةِ أسطر على شكل تغريدات أو وضعه لصورةٍ ما، ليكون ما نشره موضوع كبريات الصحف العالمية، وموضوع الجدل والتحليل، ومادة دسمة للخبراء في العلاقات الدولية.
لقد سعى دونالد ترامب ما أمكن إلى الحفاظِ على حضوره الدائم في الفضاء العمومي، والخروج المستمر في الإعلام. ولم يهزمه التقدّم في السن، ولا سذاجته السياسية، بل له طموح كبير لاستعادته مكانته السياسية التي ستؤهله للعودة إلى منصب الرئيس.
ترامب وصناعة الحدث، كيف ما كان، بعبقريةٍ وكاريزما، وأحيانا بخطاباتٍ شعبوية، عاد إلينا بحدثٍ دراماتيكي ومثيرٍ، ليُضاف لظاهرة الترامبية، لكن هذه المرّة بسيناريو مخيف ومرعب في سياق دولي يغلي بالحروب (الحرب على غزّة، حرب روسيا ضدّ أوكرانيا، حرب السودان...).
تصدّر ترامب الساحة الدولية بمشهدٍ دراميٍ، تراجيدي، يجمع بين السوداوية والرعب، بتعرّضه لمحاولةِ اغتيالٍ غير ناجحة، وظهوره بوجهٍ ملطخٍ بالدم، كأنّنا أمام فيلم هوليودي أو فيلم رعب، كتلك الأفلام التي تجيدها السينما الأميركية وتتميّز بها، لكنه استطاع النجاة واستمر في الصمود من أجل الهدف.
ترامب إذًا، ظاهرة سياسية جمعت بين أشكال التمثيل الكوميديا والتراجيديا، فهو بطل لفيلمٍ طويل بسيناريو لم تحدّد نهايته بعد، فالبطل تعرّض لمحاولةِ الاغتيال، لكنه نجا بأعجوبةٍ، وحيّا أتباعه بقبضةِ يد وهو ملطخ بالدماء، ليقول إنّ لا أحد يستطيع هزمه ولو بالرصاص، وهي المحاولة التي أعطته آمالًا لتحقيق مطامحه، من خلال اكتساب تعاطف الجمهور معه، وتصدره مكانة قويّة، ليس في المجتمع الأميركي فقط، بل حتى في المجتمع الدولي، وأصبحت صورة ترامب بارزة كترند، وحديث الكل.
إنّها "الترامبية"، الظاهرة التي لا تموت ولا تريد ذلك، فهو صانع للحدث وفي قلبه، حتى بصورة أكثر سوداوية وتراجيدية، فأصبح هذا البطل المُثير للجدل رقمًا صعبًا في العملية السياسية الأميركية.
إذًا، من هم المستفيدون من محاولة اغتيال ترامب؟ وهل يمكن القول إنّ ترامب استفاد من هذه العملية؟