التذوق الجمالي للفن
حسب تعريف قاموس أكسفورد "الجمال هو المعرفة المستمدة من الحواس"، ومنه تحدّد الخاصية المميّزة لهذه المعرفة. فالجمال قيمة إيجابية مصدرها طبيعة الأشياء التي أزحنا عنها وجودها الموضوعي، أي إنها معرفة مرتبطة بانفعال طبيعتنا الإرادية التذوقية، فالحكم على أنّ هذه قيمة جمالية ما هو إلا انعكاس لإحساس بوجود شيء حسن. ويتميز الجمال بدينامية ما، أي أنه في تغيّر مستمر لا يؤمن بالثبات، وهو أيضا حقيقة موضوعية متناسقة توجد في بيئة ذات ظروف خاصة تُدرك من خلالها، وأي عمل فني هو تعبير عن جمال العمل.
وإذا نظرنا بعمق إلى النتاج الجمالي، وجدنا أنه يتم على أصعدة كثيرة تبعاً لمادة التعبير، فإذا كان الحجر هو الوسيلة كان التعبير بالمعمار، وإذا كانت اللغة كان التعبير بالشعر، وإذا كانت النغمة كان التعبير بالموسيقى، وإذا كانت الألوان كان الرسم أو كان التعبير عن الشكل الإنساني عبر فنون التجسيم وغيرها من أشكال التعبير الفنية، والتي قد نجد فيها جمالاً يحمل بين طياته مجموعة من القيم الجمالية المتمثلة في المواساة والقداسة والقلق والخير.. وحتى الدنس أيضاً، فالأشياء القبيحة قد تلهم وتكون مصدر قلق فني سرعان ما يُترجم إلى عمل جمالي. وهذه هي الغاية من ربط القيمة النفعية للجمال بالفن، وضرورة انعكاسه في العمل الفني من أجل إعطاء مدلول لمجموعة المكونات الظاهرة فيه ولتبرير كلّ المتناقضات التي يحتوى عليها ويتألف منها، فالجمال حقيقة مصنوعة لا مقابل له فى العالم المرئي، ولا في التقدير النظري، يتألف من إيجابيات وسلبيات بنسب تخدمه بإبرازها ويخدمها بدوره في النهاية بما يضيفه عليها من مبرّر لوجودها.
وحسب آراء بعض الفلاسفة، يمكننا القول إنّ الجمال والقيم الجمالية، ليست بالضرورة محدّدة بمفاهيم أو قواعد يمكن أن نمثلها بصورة ملائمة في عمل فني ما أو في السمات الموضوعية المميزة لعمل فني أو ذاك، بل ينبغي التماسها في ما هو أبعد من ذلك، ألا وهي طريقة استجابتنا لمثل تلك الصورة، أو في الطريقة التي تشارك بها ملكاتنا أو قدراتنا المختلفة في عملية الإدراك الجمالي.
الأشياء القبيحة قد تلهم وتكون مصدر قلق فني سرعان ما يُترجم إلى عمل جمالي
كما أنّ هناك بعض الآراء التي ترى أنّ هذا الانفعال الذي يتوّلد لدى الإنسان حيال عمل فني ما، ومدى تفاعله معه، لا يكفي ولا يمكن أخذه كمقياس لتحديد وجود الجميل. فإلى جانب الصفات الجمالية المحدّدة لوجود الجمال في عمل فني ما، وإلى جانب وجود الذات المدركة له، يوجد طرف ثالث هو تلك المعايير التي يفرضها المجتمع عن طريق التربية، والتي تتداخل فيها مجموعة من الأنساق (الدينية والتاريخية والثقافية والجغرافية) على الإنسان كي تستقيم بها أحكامه الجمالية التي توّجه تفاعله مع القيم الجمالية للفن، إما بقبولها واستحسانها أم برفضها وفقا لهذه المعايير.
فالعلاقة بين التوجه العام للفن والغرض من وجوده، يحكمه النظام الاجتماعي الصارم بحيث يوّجه اختياراتنا وأذواقنا عبر كلّ ما يمرّر لنا من مبادئ، ومعتقدات، وقيم لابد من إعادة النظر فيها والوقوف عندها لتجاوز علاقة الصراع بين ما ينتظره المتلقي من الفن وبين وظيفة الفن الجمالية والكونية، ولخلق ذلك التوازن الذي أشار إليه الفيلسوف أبو حيان التوحيدي بتحديده عاملين أساسيين لا بد منهما لتذوق جمالية الفن: اعتدال مزاج المتذوق فلا ينفر إلى الغريب المتطرف ولا الشاذ المنحرف، وتناسب أعضاء الشيء بعضها إلى بعض في الشكل واللون وسائر الهيئات.
ومنه يمكن أن نستخلص أنّ التذوق الجمالي يقع في موقف وسط بين المادة والشكل وبين الفاعلية والانفعالية، والجمال هو الذى يوصلنا إلى هذه المكانة المتوّسطة. ورغم اختلاف آراء الفلاسفة والمهتمين في تعريفهم لماهية الجمال إلا أنهم لم يختلفوا كثيرا حول قضيتين أساسيتين: أولاهما أنّ الجمال نسبي يعتمد في تقديره على المتلقي وحالته المزاجية وخلفيته الاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها. وثانيهما أنّ هذه النسبية لا تعني العشوائية، بل إنّ للجمال أحكاماً ومعايير وقيماً، لا بد أن تتوفر في العمل الفني حتى يمكن وصفه بالجميل.