الأسلحة السينمائية الفاسدة (9)

22 سبتمبر 2021
+ الخط -

في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، لم يكن حسني مبارك قد أعلن بشكل رسمي شعار "خليهم يتسلّوا" المعبر عن منهجه في التعامل مع الأصوات المعارضة، ولذلك كان يغلب على اعتقاد الكثيرين أن سماح الرقابة بجرعة أكبر من الهجوم على إسرائيل في السينما والمسلسلات الدرامية والأغاني، يرتبط بارتفاع درجة التوتر السياسي بين مصر وإسرائيل، وحاجة النظام إلى تنفيس طاقة الغضب التي تصاعدت بعد سلسلة من الجرائم الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، وفي ظل هذا تعامل من أدركوا "أهمية النفخ في الزبادي"، مع إجازة الرقابة لمشهد حرق العلم الإسرائيلي في فيلم سينمائي جماهيري أنه رسالة سياسية من النظام المصري لإسرائيل الجارة والشريكة في اتفاقيات السلام والتعاون الاقتصادي والأمني والزراعي، لكن ذلك لم يمنع كثيرين غيرهم من حسني النية أن يوجهوا التحية والتقدير للناقد علي أبو شادي الذي شهدت الرقابة على المصنفات الفنية انفتاحاً كبيراً في عهده، ليس فقط فيما يخص مهاجمة إسرائيل في الأفلام السينمائية والأغاني.

حين طلبت من علي أبو شادي أن يعلق على تكرار الإشادة بدوره الرقابي "المستنير"، قال لي في تصريحات نشرتها عقب عرض فيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية): "أعتقد أن أي رقيب في مكاني وفي هذه الظروف بالذات لم يكن أمامه أي خيار آخر، فليس لشخصي أي فضل، أصحاب الفضل هم الفنانون الذين أبدعوا واتخذوا مثل هذا الموقف، لا تنس أيضا المناخ السياسي المحيط واحترام الحكومة للرأي الآخر في هذا المجال، فنغمة رفض التطبيع كانت في البداية سائدة عند المعارضة فقط والصحف القومية كانت تعلن ذلك على استحياء، لكن هذا تغير وأصبحت الصحف القومية تقول كل ما تريده ضد اسرائيل، صحيح أن مجيء نتنياهو الذي كان وقت ظهور الفيلم وما قبله تكئة استغلها الكل لزيادة الهجوم على اسرائيل، لكن التطبيع كان منذ بدايته مرفوضا شعبيا ونقابيا، وحتى الرقابة ولا حتى وزارة الثقافة تستطيع أن تأخذ موقفا مؤيدا للتطبيع مع إسرائيل، وهذا موقف وزير الثقافة فاروق حسني الذي يعلنه دائما، وكذلك هو موقف النقابات الفنية، وأنا على المستوى القانوني ملتزم بقرارات النقابات الفنية التي تحظر التطبيع مع اسرائيل"، وحين سألته: "لكن لو فرضنا أن جاء الى الرقابة فيلم يدعو للتطبيع مع إسرائيل وطولبت الرقابة بالموافقة عليه تطبيقا لحرية الرأي كيف سيكون الموقف؟"، أجاب قائلاً: "لن يستطيع أي رقيب الموافقة عليه، لأنه لو فعل سيتم فصله من النقابة التي لابد وسيكون منتميا اليها هو وصناع الفيلم، وبالتالي لا يمكن الموافقة عليه".

والحقيقة أنه بعد متابعة وتحليل للأفلام المصرية التي تناولت الصراع العربي الإسرائيلي منذ أن اتسع هامش الحريات المتاحة لصناع السينما في الثمانينات، لا يمكن القول إن الرقابة شكلت عائقاً قوياً أمام معالجات سينمائية متميزة لهذا الصراع، بدليل أنها سمحت لأكثر أشكاله تحريضاً وخطابية بالمرور إلى قاعات العرض، وأعتقد أن المشكلة تكمن في وعي صناع السينما، وخصوصاً المنتجين منهم، بهذا الصراع ورغبتهم أصلاً في التعبير عنه في أعمالهم، فاللافت للنظر أن الغالبية العظمي منهم يعتبرون القالب الكوميدي أجدى وأنفع في الأفلام التي يتبنون إنتاجها، وحتى لو ابتعدوا عن الكوميديا فإنهم يفضلون التركيز على القضايا السياسية والاجتماعية العادية التي يفترضون أنها ستتماس مع الغالبية العظمى من المشاهدين، وبالأخص الشباب منهم.

عندما تطالع مثلاً سجل الأفلام التي كتبها وحيد حامد أنجح كتاب السينما المصرية منذ عقد الثمانينات ستجد أنه لم يتعرض في أي من أفلامه لموضوع الصراع العربي الاسرائيلي

هذه المساحة المحدودة المتاحة للتحرك من قبل شركات الإنتاج الكبيرة والمنتجين الفرديين تجعل من الصعب على أي سينمائي يرغب في طرح قضايا جادة برؤى مركبة، أن يغامر بالتفرغ لإنجاز عمل به جهد حقيقي يدرس الصراع العربي الاسرائيلي، فربما وجدت منتجاً يرحب بحرق علم إسرائيل أو تنفيذ عملية استشهادية، لكن من المشكوك فيه أن تجد منتجاً يرحب بفيلم يدرس موقفنا من إسرائيل ما هي جذور صراعنا معها؟ وما هو مستقبل علاقتنا بها؟ وكيف يجب أن نتعامل معها؟. ناهيك عن أفلام تشرح للأجيال الجديدة لماذا ينبغي أن نكره إسرائيل بشكل أبعد من عبارة شعبان عبد الرحيم في أغنيته الشهيرة "أنا باكره إسرائيل"، ولماذا لن يكون هناك مستقبل للسلام معها؟ أو حتى طرح التساؤل بشكل محايد، ومن خلال افتراض درامي: هل سيكون هناك مستقبل حقيقي للسلام مع إسرائيل؟.

وربما كان هذا الواقع هو الذي جعل عددا من كبار السينمائيين المصريين ينصرف في أعماله عن التطرق للصراع العربي الإسرائيلي، فعندما تطالع مثلا سجل الأفلام التي كتبها وحيد حامد، أنجح كتاب السينما المصرية منذ عقد الثمانينات، ستجد أنه لم يتعرض في أي من أفلامه لموضوع الصراع العربي الاسرائيلي ولو حتى على سبيل التلميح كما فعل آخرون برغم مواقفه المناهضة للتطبيع، والتي يعلنها في تصريحاته الصحفية وبعض مقالاته، وعندما سألت وحيد حامد عن سبب ذلك ركز على أن الرقابة لن تسمح بتقديم أعمال تقدم معالجات جادة وجريئة لقضية العلاقة مع إسرائيل، ولن تسمح إلا بما يعالج هذه القضية من على السطح، وقال: "أنا رجل موقفه واضح من قضية إسرائيل، وأعتقد لو كتبت في هذه المسألة لن يسمح لي لأني لن أترك سلبية دون كشفها، خاصة أني أؤمن أن سلبيات العرب كانت السبب الرئيسي فيما وصلت إليه إسرائيل الآن، كانت إسرائيل تستجدي السلام من قبل، والآن صرنا نحن نستجديه، والفن واجبه اقتحام المشكلة بمصداقية شديدة، بالنسبة لي ككاتب انتهت مرحلة القبول بمنتصف الاشياء، يا تعمل اللي انت لازم تكتبه صح يا بلاش، لكن الرقابة للأمانة ليست هنا هي السبب فقط، لابد أن يكون ما تقدمه موضوعا متين البنيان، مش فيلم للاستهلاك بس وتجد عنصر تمويل جيدا وتوزيعا جيدا، وتصل للجمهور العادي بفكر يناسبه".

وفي شهادته التي نشرتها عقب عرض فيلم (فتاة من إسرائيل)، هاجم وحيد حامد الأفلام التي قال إنها تدعي مهاجمة إسرائيل، مثل أفلام نادية الجندي وفيلم (فتاة من إسرائيل) قائلاً: "بصراحة شديدة جداً، ومع احترامي لأشخاص الزملاء، هذه الأفلام طبعت اسم اسرائيل على أفيشات السينما وعلى كل حيطان مصر، وسأكشف لك أنه طلب مني أحيانا من قبل عناصر لم أكن أفهم هويتها بالضبط كتابة أفلام تدخل في رصد النسيج الاجتماعي للعرب والاسرائيليين، ولمحت لي هذه العناصر بكتابة فيلم عن قصة عربي يتزوج من يهودية، ورفضت لأنني أرى أن الكاتب لا يصح أن يستدرج، وأرى أن الأفلام التي عالجت قضية الصراع العربي الاسرائيلي لم تكن بها مصداقية كافية، وكانت مليئة بالمبالغات والضعف الفني، وهي أعمال تعرضها اسرائيل بلا خجل لكي تضحك عليها، قارن ذلك بالأفلام التي تمولها إسرائيل في السينما العالمية، والتي ستجد فيها جهدا حقيقيا، وقارن ذلك بفيلم مثل "فتاة من إسرائيل"، وأنا ضد أفلام تحمل مثل هذا الاسم منذ البداية، لأن سعيه للترويج التجاري لا يخدم قضيتنا، فالبعض يستثمر العداء الكامن في نفوس المصريين ضد العدو الصهيوني ليقوم باستغلال هذا العداء تجاريا، وهذا أمر مرفوض تماما".

وحين طلبت من كاتب سيناريو من جيل آخر هو محمد حلمي هلال شهادته في القضية، اختلف مع وحيد حامد في التركيز على دور الرقابة في ضعف التوجه السينمائي نحو معالجة الصراع العربي الإسرائيلي، وقال صاحب فيلم (حكايات الغريب) إن السبب في ذلك هو نظام الإنتاج الذي يسيطر على صناعة السينما المصرية وليس الرقابة، قائلاً: "لا أتهم الرقابة، فأنا لم أتقدم اليها بموضوع ورفضته في هذا الموضوع، لأن ظروف الإنتاج السينمائي الآن لا تسمح بمناقشة أي قضايا جادة تحت وهم أن الناس عايزة تهريج، وسيتغير هذا إذا أصبح هناك وعي إنتاجي واشتركت أجهزة الدولة في إنتاج أفلام لها أهداف قومية وأدوار خطيرة في التعبير عن كل قضايانا السياسية، وهو ما حدث في فيلمي (حكايات الغريب) الذي لم يكن ممكنا أن ينتج لولا التلفزيون، واستطعت من خلاله أن أقدم قضية دور المواطن البسيط في حرب أكتوبر وانعكاسات الحرب على مرحلة التطبيع، وتصدت لي رقابة التلفزيون، لكني قدرت أفوت منها برغم أنها رقابة عاتية جدا، والسبب أني لم أقحم شيئا على نسيج الموضع حتى جملة "اطلعوا بره يا ولاد الكلب" التي لاقت اعتراضاً من بعض الرقباء كانت مرتبطة بسياق الأحداث، ولذلك نجح الفيلم جدا لدى الناس، ومع الأسف بعدها حدثت متاجرة بالموضوع في العديد من الأفلام التي قدمت القضية من على السطح ولم تعالجها بالجدية اللازمة".

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.