الأستاذ والحمار بمرتبة واحدة

29 مارس 2019
+ الخط -
قلت، في مستهل جلسة الإمتاع والمؤانسة التي عُقدت في منزل "أبو جهاد" بمدينة الريحانية التركية، إن الأديب الراحل "أديب النحوي" كتب في أواسط الستينيات قصة طريفة جداً عنوانُها "مجلس الرحمة"، ملخصُها أن رجلاً فقيراً عنده ولد نابغ، والولد أصبح مركز اهتمام المعلمين والإدارة بسبب نبوغه.

وأما الأب الفقير فلم يكن يعلم بذلك، لأن لديه أسرة كبيرة، وليس لأسرته معيل غيره لذلك يمضي النهار في العمل والكد، وصار يفكر بأن يجعل ابنه المتفوق يترك المدرسة لكي ينزل معه إلى سوق العمل، لأنه الأكبر سناً بين إخوته. وعندما عرف أحد المعلمين، وهو رجل متشبع بالفكر الاشتراكي، بالأمر، وقف إلى جانب الفتى في مواجهة أبيه، وسبب له الكثير من المشاكل.

في آخر السنة الدراسية، ذهب الأب إلى المدرسة لكي يشكو للإدارة تصرفات زميلهم المعلم المشاكس، ويطلب منهم فصل ابنه من المدرسة، وبالمصادفة كان ما يُعرف باسم (مجلس الرحمة) منعقداً، وهو مجلس سنوي يعقد في آخر كل سنة بقصد مساعدة الطلاب الكسالى بإضافة علامة أو علامتين لكل واحد منهم، لكي ينجحوا.

هنا يستغل الأب الفرصة ويقول لأعضاء مجلس الرحمة: بما أنكم مجتمعون لأجل "الرحمة" أرجو منكم أن تتدخلوا لمصلحتي، وترحموني، فتجعلوا المعلم فلاناً يكف عن التدخل في شؤوني، وأن (تُنْقِصُوا) من علامات ابني المجتهد المتفوق، حتى يرسب في صفه، ثم تفصلوه من المدرسة بسبب قلة علاماته، وأنا بدوري آخذه ليعينني في إطعام بقية أفراد العائلة!

قال الأستاذ كمال: إنها قصة جميلة جداً يعالجها أديب النحوي بأسلوبه الشيق. وهي موجودة ضمن مجموعته القصصية (حكايا للحزن - 1967).. كم هي قصة محزنة، وتعطي فكرة عن كيفية دفن المواهب والتفوق في البلدان المتخلفة.

قال أبو زاهر: بتذكَّرْ يا أبو المراديس أنك عملت منها فيلم تلفزيوني.

قلت: نعم. وكان ذلك في سنة 1994، وهو من بطولة عمر حجو وإيمان غوري وعبد الهادي الصباغ ومجموعة من الممثلين الحلبيين الظراف وإخراج رضوان شاهين. وبصراحة أنا جبْتْ سيرة القصة والفيلم لأنو بدي إحكي لكم شغلة تانية.

ضحك أبو الجود وقال: السهرات تبعنا كلا هيك. بيكون الواحد عم يحكي بالطب، وفجأة بيصير يحكي بـ قلع الضراس.

قال أبو محمد: هيك أحسن من إنو تْعَلّقُوا على موضوع واحد متلما مْعَلِّقْ عليك الفقر يا أبو الجود.

قلت: بما أنو أنا اللي فتحت القصة، راح كون أنا المسؤول عنها حتى النهاية. هلق بدي أحكي لكم أشو صار معنا بخصوص فيلم "مجلس الرحمة". المنتج، وهوي من أصدقائي، عرض الفيلم على إحدى المحطات التلفزيونية العربية الفهلوية، فتحفظتْ المحطة على العنوان، لأنو الرحمة، بحسب الرقيب تبع المحطة، من اختصاص الله سبحانه وتعالى، وليست من اختصاص مجلس الرحمة البشري. صديقي المنتج فاوض المحطة على أن تشتري منه الفيلم بعد أن يغير اسمه ليصبح (حكاية تلميذ).

قال أبو أحمد: هادا حل معقول.

قلت له: هوي حلّْ معقولْ بالظاهر، لاكن نحن اللي خدمنا العسكرية برتبة "تلميذ رقيب أول" كان في عندنا عقدة نفسية من كلمة "تلميذ"، لأنو في الجيش في طلاب ضباط، وهدول هني أدنى رتبة بين الضباط، وما في أدنى منهم غير التلاميذ، لذلك كانوا مختصين بإهانتنا، وكلما نزلنا إلى باحة الكلية العسكرية بيخلونا نكره حياتنا من كتر الصياح فينا: ولاكْ تلميذ. قف. منبطحاً. واقفاً. التمرين التاسع خود وضع. ولأنو الطلاب جايين من مناطق مختلفة، فنحن التلاميذ كنا نسمع منهم لهجات مختلفة، ونشوف منهم بياخات مختلفة، والكل عم يصيح: ولاك تلميذ.

وقلت للسامرين: قبلما أختم القصة تبعي بحب أسألكم إذا بتعرفوا أشو هي الرتبة الأقل مستوى من رتبة التلميذ.

قالوا: ما منعرف.

قلت: هي رتبة الأستاذ! في الجيش العربي السوري الباسل اللي هلق عم يدمر سورية فوق رؤوس أصحابها، معظم الضباط وطلاب الضباط بيعتبروا الأستاذ والكرّ (يعني الحمار) بمرتبة وحدة! وبرأيي أنو هادا هوي السبب الرئيسي في انتصار هذا الجيش الباسل على هذا الشعب الغلبان.

وللحديث صلة..
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...