اكتئاب ما بعد الحراك في الجزائر
كُنتُ قد قرأتُ منذُ حوالي الشَّهرين تقريبًا، تدوينةً فيسبوكية لأحد المُحَلّلين النّفسانيين المُتابِعين للوضع السّياسيّ في الجزائر، تَحدَّثَ فيها عن أسبابِ الدّخول في حالاتِ الاكتئاب عموما وكيفية الخروج منها، ثم أشار بذكاءٍ في آخر مقاله إلى إمكانية دخول الحراك في الجزائر إلى قلب هذه الحالة النفسية الصعبة بعد كلِّ ما جابهه من تقلبات ومطبات وانتصارات قليلة تخللتها خيباتٌ كبيرة.
قَلَّبتُ تلك التدوينةَ في رأسي كثيراً، وبقيت أفكر في ذلك الرِّباط الوثيقِ الّذي كان موجودًا بالأصلِ، ولم يعبر عنه أحد من قبل، لقد ترجمت فعلياً بطريقة أو بأخرى بداية تحليليةً جيدة لحالنا الذي وصلنا إليه اليوم.
الآن، وأنا أحاول الكتابة عن كل تلك الآمال والأحلام التي كانت تَسكُنُنا منذ بداية عام 2019، وحاولتُ أن أستحضرَ مذكراتي الشحيحة عن الحراك وعن وجوهه العديدة التي أثَّثَت ذكرياتي فيه، ووجدتُ نفسي عاجزةً عن المُضِيِّ في الأمل، حبيسةَ اكتئابٍ طال أمدُه، وقد صرتُ أربط حالتي النفسية المتقلبة ونوباتِ الأرقِ والتفكيرِ الّذي لا ينتهي (لاإراديا) بالوضع العام الذي نعيشه في البلد، منقسمين ومشتتين بين الأزمة السياسية ومخاوف الأزمة الصحية، ومع ذلك ما زلت (ككثيرين غيري) حبيسة رفض تامٍّ للوضع القائم، ولم يعد الأمل كافيا لابتغاء تغيير ما.
وسط كل هذه الأخبار المتسارعة التي تزرع الهلع بيننا، صرتُ أطمحُ إلى حدوثِ معجزةٍ إلهية ما قد تخرج بنا من عنق الزجاجة الذي بقينا عالقين فيه، منذ بداية أزمة كورونا التي ساعدت على تسريع نهاية الحراك في الشارع -لا في قلوبنا-.
وجب على متبني الحراك السياسي والاجتماعي أن يتعلموا تقدير عملهم النضالي، وتقدير الآخر المختلف عنهم في الرؤى أيضاً
يحدث إذن أن أجلس لساعات وأنا أتأمل كل تلك الصراعات التي دخلناها ونحن في قلب النضال، وأذكر يومها أننا تسلحنا بشجاعة كبيرة لم نعرفها من قبل ولم نسمع عنها إلا في حكايا كبارنا عن ثورة التحرير الجزائرية، يومها أيضا خرجنا دونما خوف، كنا بلا تأطير ولا تنظيم في الأغلب، لقد قدرنا ذواتنا بشكل كبير بعد قرون من جلد الذات والتذمر والتراكمات التي أثقلت أكتافنا.
كنا نحمل في جعبتنا أمل التغيير و(إسقاط النظام) و(إحياء الدولة)، لم نكن ندرك في بداية ثورتنا تلك، كل ما كان ينتظرنا من مفاجآت ومناورات سياسية، وتغيير للمواقف، لم نعلم أننا سنقع فريسة صراعات قد تنسفنا برعاية نظام محترف في المكر.
في الواقع، وإذا ما أردنا تحليل الأمور من منظور نفسي، نجد أن كل الأزمات في العالم بتنوعها، تخبئ في جعبتها شقا مهما يرتبط وثيقا بالصحة النفسية العامة، فمثلما تسكن الفرد أزمات نفسية عارضة تنغص عليه عيشه واستمراريته في ممارسة مهامه اليومية وواجباته الحياتية، يدخل النضال السياسي أيضا في قلب الأزمات ومراحل الشكوك واليأس، خاصة من طرف الشباب الذين يشتعل حماسهم وينطفئ مع علو أمواج التغيير وتكسرها على صخور البلادة السياسية التي تتقنها الأنظمة المتجذرة في الحكم، ليلجأ هذا الجيل اليائس المكتئب إلى أحضان السخرية و"الميمز" لينسى ما جابهه خلال سنتين من الأحلام المغتالة، لعله يجد عزاء في الابتسامة التي تغطي وجه الحقيقة القبيح جدا.
ومثلما يعد تقدير الذات علاجا جيدا للمصابين بالاكتئاب، حيث يخرج بهم شيئا فشيئا من الهوة السحيقة التي يرميهم فيها اليأس، وجب على متبني الحراك السياسي والاجتماعي أن يتعلموا تقدير عملهم النضالي، وتقدير الآخر المختلف عنهم في الرؤى أيضا، ومحاولة منح النفس الطويل لمشاريع وخطط طريقهم على المدى البعيد، لأن الضغوطات التي يتعرضون لها طوال فترة النضال التي غالبا ما تطول، تدفعهم مع مرور الوقت إلى الوقوع في فخاخ التقلبات السياسية التي تفرضها الصراعات على السلطة، إضافة إلى مكائد أعوان النظام الذين يدافعون باستماتة عن مصالحهم على حساب آمال الشعب المنهارة، والذين يراهنون على أصحاب النفس القصير والبطاريات السياسية الواهنة.
ما العمل إذن؟
ينصحنا الأطباء النفسانيون دائماً في حالة الاكتئاب والضغوطات النفسية أن نمارس نشاطاتنا التي نحب في حدود الإمكانيات المتاحة، في المقابل يمكن أن ننتهج أيضا هذا الأسلوب في المضي قدماً في حراك مختلف، قد لا يكون في الشارع بسبب حالات القمع والتعتيم والتضييق التي تعرض لها، ولكنه يمكن أن يكون حراك أفكار وتنظيم للصفوف ونضال سياسي لا يعتمد على التعامل المباشر مع النظام، إنما بالوقوف في طريق هذا الوضع المفروض غصباً منه، يمكن أن يخلق الحراك الشعبي في الجزائر فرصة أخرى لإعادة بناء مجتمع يتمتع بشخصية مختلفة تماما، وقد يأخذ هذا الأمر فترة طويلة ولكنها تستحق أن تعاش وأن تستغل، المهم في كل هذا هو عدم رمي المنشفة وعدم الترويج للحالة البليدة التي دخلنا فيها منذ فترة، لأن اليأس والانطواء لكل كيان سياسي أو قوة مجتمعية على نفسها هو ما يمد في عمر الدكتاتوريات التي تقتات على انكساراتنا النفسية.