اذكروا محاسن ومساوئ موتاكم
"سبحان من له الدوام"، قلتها وكررتها فور أن قرأت خبر وفاته، ربما لكي أغالب ضيقي من أن أول ما فكرت فيه، حين قرأت الخبر، صورته وهو يقف مع عدد من ضباط الداخلية أمام حلة رز عملاقة وقد مد يده إلى مغرفة ضخمة مليئة بالرز أمسك بها شخص ما في ذلك السجن الذي كان يزوره، مكرراً مشهداً هزلياً مأساوياً ليس عندي أدنى شك أنه كان في السابق يشاركنا السخرية منه، حين يراه في الزيارات التفقدية التي يقوم بها المسئولون للسجون المكدسة بسجناء الرأي والمعتقلين السياسيين، أو حين يرى التجسيد السينمائي الذي قام به وحيد حامد وعاطف الطيب لذلك المشهد المخجل المضحك في فيلم (البريء).
لم تكن تلك المرة الأولى التي يزور فيها صاحبنا السجن، زاره قبل ذلك كمعتقل غضبت السلطة من أداء المنظمة الحقوقية التي كان يرأسها عقب اعتراضها على أداء الدولة في عهد مبارك عقب حادثة طائفية مأساوية وقعت في جنوب مصر، وتعرض وقتها للتنكيل الذي يتعرض له الآن عدد من زملائه ورفاق طريقه، دون أن يثير ذلك غضبه واحتجاجه، بعد أن نالت منظمته الحقوقية الرضا الرسمي في السنين الأخيرة، لأنه قرر أن يعمل من "جوّه السيستم"، ربما لأنه اكتشف متأخراً أن الدولة تتعرض لمؤامرة دولية لا يصح أن يكون جزءاً منها، أو ربما لأنه أراد أن يهرب من العسف والتنكيل ويعمل في إطار المتاح، حتى لو تطلب الأمر أن يقوم بأداء مشهد هزلي يتفقد فيه مطابخ السجن وحماماته، ثم يؤكد للكاميرات أن "كله تمام".
تراجعت أصوات المطالبين بذكر محاسن الحقوقي الراحل، حين نشر معتقل سياسي سابق تدوينة غاضبة يلعنه فيها بأقذع الألفاظ
هل كان يجب أن أنسى تلك اللحظة المخجلة حين قرأت خبر وفاته؟ وأتذكر لحظاته المشرقة السابقة فقط؟ بالطبع لا، فليس لنا حيلة في ما نتذكره وما نشعر به من انفعالات لحظية، لكن ما استطعت فعله بعدها هو الصمت احتراماً لما أعرفه من مواقف مشرفة سابقة، طالباً له الرحمة والمغفرة وداعياً لنفسي ولمن أحب بحسن الختام، لكنني مع ذلك شعرت بالاستفزاز حين رأيت بعض أصدقائه وهم يغالون في مدحه والإشادة به، متوقفين فقط عند مرحلته المشرقة التي كان فيها مناضلاً صلباً من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة، لكنني لم أعلق وأشحت بوجهي، وطلبت له ولنفسي الرحمة والمغفرة، ولم يكن ذلك موقف آخرين يتعرض أبناءهم وأحبابهم لمعاملة بشعة في السجون التي زارها صاحبنا ومنحها ختم الجودة، ليعبروا عن استياءهم من عدم اكتفاء البعض بالترحم على الميت، بل تجاوزهم ذلك إلى تزييف تاريخه وغسيل سمعته التي لطخها بنفسه، ليتجدد بعدها النقاش الصاخب المعتاد بين أنصار مدرسة (اذكروا محاسن موتاكم)، وبين من لا يطيقون سيرة محاسن خصوصاً إذا كان هناك كلام كثير يخص سمعتها.
تراجعت أصوات المطالبين بذكر محاسن الحقوقي الراحل، حين نشر معتقل سياسي سابق تدوينة غاضبة يلعنه فيها بأقذع الألفاظ، لأنه كان قد التقى به في تلك الزيارة التي قام بها إلى السجن وأراه آثار التعذيب التي تعرض لها، فوعده بتبني قضيته، لكن المعتقل فوجئ به بعدها وهو يشيد في كافة وسائل الإعلام بالمعاملة الكريمة والحسنة التي يتلقاها جميع المساجين، وهو ما شجع أخت معتقل سياسي حالي على أن تكتب تفاصيل أكثر عن الدور الذي لعبه صاحبنا في التواطؤ الإجرامي مع نظام السيسي في ملف أوضاع المساجين والمعتقلين.
هل يمكن أن نطلب من المظلوم أو المتضرر أو الغاضب أن يكتم مشاعره وانفعالاته ويلتزم بذكر محاسن الميت أو يشيح بوجهه بعيداً دون أن يذكر مساوئه؟
وكما حدث من قبل، وسيحدث من بعد، لم يمنع نشر تلك التفاصيل الذين أحبوه من الترحم عليه وذكر محاسنه وفضائله، ليس لأنهم قساة القلوب غلاظ الأكباد لا تهمهم معاناة الآخرين، بل لأنهم بشر يضعفون أمام من يحبون، وأمام من يكرهون أيضاً، ولا يرون وجاهة في التعامل الحاد مع شخص لم ينلهم منه أذى مباشر، كما لم يعدم الأمر وجود من يتمادى إلى حد تبرير تصرفات الراحل والتماس الأعذار له، لينالهم الذي فيه النصيب من سخط المتضررين من أفعاله وأقواله، ويصل شيء من كل هذا إلى أقاربه وأحبابه، فيشكرون من دافع عنه، ويتألمون ممن هاجمه ولم يحترم حزنهم عليه، ويتخذ البعض مواقف حاسمة مرتبطة بالمعركة التي دارت في هذا الحساب أو تلك الصفحة، في حين يفضل البعض الآخر التطنيش والتجاوز، ثم ينسى الجميع بعد يوم أو يومين كل ما سبق، قبل أن يتجدد كل ما سبق بشكل أو بآخر حين يزور الميت ميتاً جديداً يختلف الناس حول محاسنه ومساوئه.
طيب، هل يمكن أن نطلب من المظلوم أو المتضرر أو الغاضب أن يكتم مشاعره وانفعالاته ويلتزم بذكر محاسن الميت أو يشيح بوجهه بعيداً دون أن يذكر مساوئه؟ بالطبع يمكن، لكن ذلك لن يكون له جدوى من أي نوع، وهو ما يدركه كثير ممن يطلبونه من غيرهم، لكنهم يفعلون ذلك طلباً للأجر والثواب، أو أملاً في أن يتكرر معهم حين يلقون وجه رب كريم يتمنون أن يتجاوز عن زلّاتهم.
طيب، هل يمكن أن نطلب من أهالي الراحل أن يتعاملوا بهدوء وترفع كاملين مع ما يقال ويكتب عن فقيدهم ومساوئه أو جرائمه أو خطاياه؟ بالطبع لا يمكن إلا إذا كنا نشكو من خلل إدراكي وانعدام في التمييز، لذلك ليس أمامنا إلا أن نتفهم حزنهم وغضبهم الذي ربما اجتذب الكثير من المتعاطفين في مجتمعنا المنقوع منذ مئات السنين في روح "الأبيض والأسود"، والمسكون بثنائيات الملائكة والشياطين والجلادين والضحايا.
ما العمل إذن؟ هل إلى خروج من سبيل في هذا المأزق؟
ربما كان كل ما نستطيع فعله إذا لم نكن متورطين بشكل شخصي مع الميت سلباً أو إيجاباً، ألا نستسلم بالكامل لذلك الطوفان من المشاعر والانفعالات التي ترافق وفاة أي شخصية عامة، وندرك أنه من المستحيل أن يتمكن أحد من فرض طريقة محددة للتعامل مع الموتى وذكراهم، وأن ما سنقوله عنهم سلباً وإيجاباً لن ينفعهم أو يضرهم بشيء، صحيح أنه ربما أزعج محبيهم أو أسعد كارهيهم، لكنه في النهاية لن يغير شيئاً بالنسبة لهم، بعد أن أصبح حسابهم على الله تعالى، أما حسابهم في الدنيا سيبقى ـ شئنا أم أبينا ـ مفتوحاً وقابلاً لإعادة القراءة والتأويل، وكم من ميت لعن الكثيرون سنسفيله فور موته، ثم ترحموا عليه حين تبدّى لهم ما كانوا يجهلونه وتبدلت صورته لديهم، أو بدت رمادية أو مختلطة الظلال بعد أن كانت كالحة قاتمة، والعكس صحيح، كم من ميت فارق الحياة في جنازات حاشدة مهيبة، ثم بدا للناس عنه ما لو عرفوه في حياته، لكسروا وراءه القُلَل وضربوا الحزانى عليه بالصُرَم القديمة.
أذكر أنني حين كتبت رأياً عقب رحيل كاذب كبير رأس لعقود إحدى المؤسسات الصحفية الحكومية وارتكب فيها الكثير من الجرائم والمهازل، راسلني أحد محبيه غاضباً
أذكر أنني حين كتبت رأياً عقب رحيل كاذب كبير رأس لعقود إحدى المؤسسات الصحفية الحكومية وارتكب فيها الكثير من الجرائم والمهازل، راسلني أحد محبيه غاضباً وتصور أنه سيفحمني حين حذرني مما سيكتبه عني الناس بعد وفاتي، لكنه بما فعله شجّعني مشكوراً على تأمل مستقبلي، ودفعني إلى لعب رياضة ذهنية مهمة، فأرسلت إليه مقتطفات مما سيقوله عني من يحبني ومن يكرهني، وقلت إنه لو أمد الله في عمره وعاش أطول مني، سيرى أن ما سيكتب عني لن يخرج عما أرسلته إليه، إلا إذا كنت محظوظاً وعشت فترة أطول حتى تثبت الأيام لقطاع أكبر من الكارهين لي وجهة نظري في قضايا كرهوا رأيي فيها، أو ترق لي قلوبهم فيتذكرون لي ما يحبونه إن وجد، أو تستمر الأيام في قساوتها فيتذكرون ما كرهوه مني، ويجدون من ينتقدهم على ذلك أو يتفق معهم فيه، أو ربما أوغلت في قسوتها فجعلتني أخسر كثيراً ممن يحبني، ويرى مني ما يكره أو ما يسوء، والمؤكد في كل الأحوال أن شيئاً من ذلك لن يضرني، مثلما لن ينفعني أي احتفاء أو إشادة أو شكر أو تقدير، فكل ذلك وإن أطرب أقاربي وأحبابي وطبطب عليهم بعض الشيء، لن ينفعني، كما لن يضرني إلا ما قدمته من عمل، سيحاسبني عليه من يعرف نواياي ودوافعي وخبايا نفسي.
لكن إذا كان الميت لن ينتفع بشيء غير عمله، سيظل من واجب الأحياء أن ينتفعوا بتأمل سيرة موتاهم، خصوصاً إذا كانوا ممن لعبوا دوراً عاماً في حياتنا ومجتمعنا، وربما أراحنا في ذلك أن نعبر عن انفعالاتنا بالإدانة أو الإشادة، لكن ذلك لن يغنينا عن واجب الفهم والنظر، لعلنا نتعلم من تفسير الدوافع ومقارنة المواقف وتحليل العلاقات، فينجينا ذلك من تكرار خطأ شنيع، أو يدفعنا إلى الاقتداء بفعل جميل، ويجنبنا من الوقوع في فخ التعامل مع الآخرين بوصفنا ضباطاً مسئولين عن تسكين ملفاتهم في خانات محددة سلفاً، أو قضاة يمتلكون حق الإدانة الكاملة أو التبرئة النهائية، وهو درس سنكون محظوظين لو علمته لنا الحياة قبل فترة كافية من زيارة الموت لنا.
اذكروا محاسن ومساوئ موتاكم، وادعوا لأنفسكم ولمن تحبون بحسن الختام، ولمن تكرهون بالهلاك أو بالهداية، لن يفرق ذلك، فالقرار النهائي والحمد لله ليس في أيدينا.