احتجاجات السويداء وأمراض العقل السوري
تشبه حالة الشعب السوري اليوم حال السرطانات المائية في وعاء، التي حينما يحاول أحدها الخروج منه، تقوم بقية السرطانات بإنزالها، وهكذا ليبقى الجميع قابعاً في هذا السجن الصغير.
من أين جاء بعض السوريين بهذه الأمراض المستعصية، ومن أعطاهم الحق في تصنيف الناس؟ هذا وطني متجانس وذاك خائن! هذا ثائر جائع، وذاك ثائر صاحب كرامة؟ مشكّكين بكلّ ما يقوم به أبناء السويداء من احتجاجات سلمية، تطالب بالعيش الكريم لجميع السوريين ورحيل المحتلين وتطبيق القرار الأممي رقم 2254، وإسقاط المنظومة الحاكمة، وصولاً إلى دولة مدنية ديمقراطية مستقلة.
فجماعة النظام يتهمونهم بأنهم خونة وعملاء يسعون للانفصال، لصالح أجندات إسرائيلية وأميركية، يترافق ذلك مع هجوم إعلامي منظّم، عبر إطلاق المزيد من التهديدات، مرّة بقدوم داعش، وأخرى بالقصف والحرق والانتقام، وثالثة "ماذا لو صرخنا يا علي؟"، ثم التذكير بما آلت إليه بقية المدن السورية من تدمير وخراب.
في حين يلومهم بعض المعارضين، بأنّ ثورتهم إنّما هي ثورة جياع لا ثورة كرامة، سوف تنتهي بمجرّد تلبية ما يسدّ جوعهم من غذاء وشراب، "لأنّ من يتأخر بالنهوض في وجه المستبد، غير مكترث بكلّ ما فعله من جرائم، إلى أن يصبح الجوع تهديداً لحياته، فإن هذه ليست ثورة، بل ردّة فعل غريزية للبقاء على قيد الحياة وليس البقاء على الكرامة والحرية"، حسبما أورده الفنان والكاتب عمار آغا القلعة على صفحته في "تويتر".
أما الأكاديمي والباحث السوري، صابر جيرودي، فيُفلسف لنا مفهوم الثورة، في مقال بعنوان "ثورة كرامة أم ثورة جياع" بالقول: "إن هناك فارقاً بين ثورة الفكر وثورة الجوع، الأولى حصلت في درعا ولم يكن سببها لقمة العيش بقدر ما كانت ثورة من أجل الكرامة، في حين ما حصل في السويداء لم يبدأ من الفكر كما هو حال الثورة الفرنسية، ولم يبدأ بالمطالبة بالكرامة كما حصل في حوران وعموم المحافظات السورية، وإنما بدأ بالمطالبة بتحسين الوضع المعيشي، وتأمين حاجات المحافظة من السكر والرز والخبز، ومن ثم فهي انتفاضة المطحونين والمهمشين والجوعى، وليست ثورة ضد الاستبداد السياسي الجاثم على صدور السوريين منذ عشرات السنين..".
وهو في الواقع ما سبق أن قام به أكاديمي آخر من المدرسة نفسها، هو بشير زين العابدين، وذلك في كتابه "الجيش والسياسة"، حينما قام بفلسفة الأسباب التي قامت من أجلها الثورة السورية الكبرى، بقيادة سلطان الأطرش، والتشكيك بنصاعتها بالقول: "إن أبناء السويداء قد ثاروا في حينها لأنّ حاكم الجبل كاربيه قد أخلّ ببعض الشروط، وليس بدافعٍ وطني".
إذا كانت أهداف المنتقدين لثورة السويداء هي إسقاط الطغمة الفاسدة، ألا يتوجب عليهم مساندة هذا الحراك بكلّ ما استطاعوا، كي يتحقّق هذا الهدف المنشود؟
لن نطيل في استعراض المزيد من هذه التشوّهات الفكرية، ولا في السرد التاريخي للثورات التي أشعلها رغيف الخبز، بدءاً من الثورة الفرنسية التي سخرت من حشودها زوجة الملك، ماري أنطوانيت، بأنهم إن لم يجدوا الخبز فعليهم أكل البسكويت، إلى انتفاضاتي الخبز في مصر 1977 و 2011، والتي طرحت شعار "عيش حرية كرامة إنسانية" إلى انتفاضتي الخبز في تونس 1984 و 2011 التي فجرها البوعزيزي، ومثلها في المغرب 1981 و 1984، وكذلك الجزائر 1986 و1988، ثمّ الأردن 1989 و 1996 و 2018 حينما رفع الناس رغيف الخبز.
وهو ما دعا الدكتور أحمد برقاوي للتأكيد "أن ثورة الجياع هي أيضاً ثورة كرامة"، مبرّراً ذلك بأن "الإنسان الذي لا يريد للجوع أن يذلّه يثور دفاعاً عن كرامته حين يثور من أجل لقمة عيشه"، لذلك تعمل الحكومات بجهد كبير للحفاظ على سعر الخبز منخفضاً، لأنك قد تفقد رأسك إذا ارتفع سعر الخبز بسرعة كبيرة، وفقاً لما يقوله مايكل بولان.
وعليه، فإذا كانت أهداف هؤلاء الحقيقية منذ بداية الثورة 2011 إسقاط الطغمة الفاسدة وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية، ألا يتوجب عليهم مساندة هذا الحراك بكلّ ما استطاعوا، كي يتحقّق هذا الهدف المنشود، بدلاً من الدخول بتلك المتاهات؟ أم أنّ لهم أجندات سرطانية خاصة بهم، شهد فصولها السوريون خلال سنوات الجمر الماضية، عبر ممثليهم من إخوان مسلمين وغيرهم؟
ثمّة مفارقة كبيرة هنا، طالما أنه يتحدث هؤلاء عن الكرامة، فلم لم يقولوا لنا أين كانت هذه الكرامة حينما قامت اللجنة العسكرية السرّية بتسريح مئات الضباط، قبل أن تقوم بتسريح بقية ضباط الأقليات الأخرى؟ وهو ما أدى إلى هزيمة حزيران المشؤومة، فضلاً عن سقوط الجولان، كمقدمة لسقوط الأوطان. بالمقابل، حينما لجأت الزمرة نفسها لتسريح عدد من ضباط السويداء، قامت الدنيا لدى أبنائها ولم تقعد.
ثم أين كانت كرامة السوريين لتسأل صاحب هذه الهزائم عن أسباب هذا السقوط؟ بل أين كان يذهب بأموال النفط السوري؟ وأين بدّد جميع مقدرات الوطن؟ أين كانت حينما حلّ النقابات المهنية وصادر الأحزاب والحريات العامة؟ بل أين كانت حينما كان هؤلاء، وبقية السوريين، مجرّد مواطنين من الدرجة الثانية؟ أين كانت لتسأل كيف وقف إلى جانب إيران طوال ثماني سنوات بمواجهة العراق الشقيق؟ وحده الراحل ممدوح عدوان دون غيره من تجرّأ على هذا السؤال، لا بل أين كانت لتسأل أين بات كلّ من لواء اسكندرونة وعربستان والجزر الإماراتية الثلاث؟ أو لتسأل كيف استنجد الوارث بالمحتلين الروس والإيرانيين والمليشيات الطائفية؟ في الواقع الأسئلة كثيرة.
بناءً على ذلك، يسأل العميد محمد رحال هؤلاء، عبر صفحته في الفيس بوك باستهجان، بقوله: "ليش عينكن ما بتشوف غير باتجاه واحد؟ نسيانين شو نسبة السنة الموجودين عند النظام بالحكومة وبالوزارات وبالجيش وبالأمن؟ 60 بالمائة من أفرع الأمن سنة. 70 بالمائة من الجيش اللي عبقاتلوا سنة، 70 و80 بالمئة اللي بالحكومة سنة"، ثم يختم ذلك بالقول: "ليش بتحاسبوا غيركن وانتو ما بتحاسبوا حالكن؟".
ختاماً، يقول أحد السوريين الأحرار، يمان زباد: "كلّ صيحةٍ ضد مستبدٍ أو محتلٍ هي ثورةٌ ولو كان مُطلِقُها فرداً لاحول له إلا صوته ولا أداة له إلا فكره، ومجموع تلك الصيحات هي الثورةُ العامة التي لا شيء يجمعُ أبناءها إلا الهدف البعيد وهو تغييرُ الوضع الحالي من جذوره".