إنته عمري.. وعمري ضايع

03 سبتمبر 2019
+ الخط -
يحاول الأصدقاء الذين يحضرون سهرات "الإمتاع والمؤانسة" الابتعادَ عن أمرين، هما: التحدث في السياسة والفلسفة.. ولكنهم عندما يجدون أنفسهم مضطرين للخوض في أحدهما يتحايلون على الموضوع باللجوء إلى تبسيط العبارات التي يستخدمونها لتوصيل أفكارهم، ويلجأون إلى ضرب أمثلة قريبة من ثقافة الآخرين وأذواقهم.

في الجلسة التي انعقدت في منزل الصديق "أبو مراد" في منطقة الفاتح بإسطنبول كنا على وشك العودة للحديث عن مفهوم "الزمن" ولكنَّ أخانا أبا مراد تأخر في تقديم العشاء للحاضرين، وهذا ما جعل تركيز الحكي والاستماع ضعيفاً، وقد ظهر ذلك جلياً على وجه "أبو الجود" الذي كان يدخن بلا قابلية وبين الحين والآخر يمسد شاربيه بإصبعيه، ويتناوأ ببصره نحو الباب متوقعاً دخول أبناء صاحب البيت حاملين منسف العشاء. وفي لحظة يمكن أن نعتبرها (تاريخية) رَفَعَ كُمَّ القميص عن ساعده واستلقى على ظهره وقال:
- إذا كانْ الليلة ما في عشا يا ريتْ تعلقوا لنا "سيروم"!

ضحكنا جميعاً وقال كمال: والله إنُّهْ ما في أشطرْ من أبو الجود في صناعة النكات والقفشات. متلما بتعرفوا، المريض في المشفى لما بيمنعوه من تناول الطعام بيعلقوا له (سيروم) حتى يعوض الجسم الغذاء، أبو الجود هونْ استثمرْ الحالة وحولها لقفشة بارعة.


قال أبو جهاد: والله يا أستاذ كمال أنا كنت بدي قلك ملاحظة، بعدين تراجعت.

قال كمال: ما في داعي تتراجع. قول ملاحظتك ولا تهتم.

قال أبو جهاد: أبو الجود واحد عَلَّاك، وهاي نكتة تعليق السيروم نحن دائماً منسمعها منه، وبعمرنا ما قلنا إنه شاطرْ أو بارعْ متلما عم تقول إنته.

في هذه الأثناء دخل اثنان من أبناء أبي مراد ووضعا أمامنا منسفاً مملوءاً بالرز والفريكة والقلوبات إضافة إلى لحم الخروف المسلوق الذي تفوح منه روائح زكية، فتقدم أبو الجود، وباشر بالتهام الطعام بنشاط وهو يقول:
- تفضلوا ناقشوه لأبو جهاد بأفكارُه القوية، أنا هلقْ مشغولْ بالأكلْ. وأنا في موضوع الأكل عنيد ودماغي جزمة قديمة.

بعد الانتهاء من تناول الطعام قال كمال: الحقيقة إنُّه كلياتنا كنا متلهفين، وعم ننتظر وصول الطعام، وهادا الشي إِلُه علاقة بالاعتيادْ، وإله علاقة بالموضوع اللي كنا عم نحكي فيه من قبل. قصدي موضوع "الزمن".

قال أبو محمد: لا تواخذني أنا ماني شايف علاقة للزمن بالأكل.

قال كمال: أنا فيني إثبت لك إنه إله علاقة. لو كنا معتادين نمضّي السهرة بدون ما نتناول طعام، ما كنا شعرنا بالجوع، بس نحنا تعودنا ناكل في زمن معين، بحدود الساعة تسعة تقريباً، ولما بيتأخر الطعام عن موعده الجسم بيعملْ إفرازات وبيعطي أمر للمعدة حتى تشعر بالجوع.. وأنا بظن لو كان أبو الجود في هاد الوقت متسطح ومعلق السيروم بإيده، وشاف الطعام راح يركض باتجاهه ويبلش بالـ إلْتِهَامْ.

قلت: أو بالـ إفْتِرَاسْ.

قال أبو زاهر: هلق بما أنه صاحبنا أبو الجود أكل وعم يشرب شاي وصار رايق، خلينا نكفي حديثنا تَبَعْ "الزمن".

قال كمال: إذا بتتذكروا، في المرة اللي فاتت ضربنا مَثَلْ من أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، وهلق بإمكاننا نتابع. أنا البارحة كنت عم إسمع أغنية "إنته عمري" اللي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم سنة 1964، وصرت أفكر بموضوع الزمن على رواق.

قال أبو محمد: وأشو طلع معك؟

قال كمال مخاطباً أبا محمد: من عنوان الأغنية يا عمي أبو محمد الواحد بيشمّْ رائحة الزمن. بتقول: إنته عمري. والعمر شو؟ العمر هوي السنين اللي بيعيشها شخص معين، واللي معدلها الوسطي سبعين سنة. والإنسان متلما بتعرفوا بيحب العمر تبعه، وبيتمسك فيه لأنه قصير ومحدود، وممتع. الشاعر أحمد شفيق كامل اللي كتب كلمات "إنته عمري" كتير بيلجأ لفسلفة الزمن.

قال أبو جهاد: رجعنا للفلسفة؟

قال كمال: هيي فلسفة، بس فينا نخليها بسيطة ومفهومة. المغنية (أم كلثوم) بتزعمْ في هاي الأغنية إنها قبل ما تحب هاد الرجل كان عمرها ما إله قيمة. بتقول: عمري ضايعْ يحسبوه إزّايْ عليَّ؟ لاكن بعدما التقت بهادا الرجل ووقعتْ في حبه صارت تنتبه إلى إنه العمر إله قيمة وبينحبّ. بتقول: ابتديت دلوقتِ بَسّ، أحبّ عمري. بمعنى أنها صارت تحب الحياة بشكل جدي. وصار لازم تستثمر كل لحظة من لحظات عمرها بشكل جميل ومفيد، وصارت ترغب في إنه عمرها يتوقفْ عند هاي اللحظة ويبطلْ الزمن يمشي: ابتديت دلوقتِ أخافْ لا العمرْ يجري.

قال أبو محمد: أنا يا شباب مضيت عمري بالشقا والركض والتعب والغبرة وقلة القيمة، لاكن بالله الجليل الحكي اللي عم يقوله الأستاذ كمال كويس، وأنا كتير مبسوط لأني عم أعرف شغلات جديدة. وعلى كل حال السهرة الجاية عندي.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...