أول كتاب في الفلسفة
أذكر جيداً ذلك الموقف الذي حدث بيني وبين مدرّس الفلسفة قبل ست سنوات عندما كنا نأخذ درساً في فلسفة هيغل وتصنيفه للبشر-وهيغل هذا من آباء نظرية المركزية الأوروبية والتفوق العرقي للأوروبيين- وكنا في السنة الثانوية الأخيرة، أو ما نطلق عليه "البكلوريا". وكان مما قاله المدرس حينها إن هيغل يصنّف المسلمين على أنهم أدنى من الحيوانات. لا أدري مدى صحة هذا القول، ففي حدود اطّلاعي لم أجد شاهداً لهذا الكلام، وغاية ما وصلت إليه هو قوله: "إن القدر المحتوم للإمبراطورية الآسيوية أن تخضع للأوروبية" و" الشاهنامة التي كتبها الفردوسي في القرن الحادي عشر ليس لها قيمة كمصدر تاريخي ما دامت محتوياتها شعرية ومؤلفها مسلم" في كتابه (محاضرات في تاريخ الفلسفة).
المهم أن الغضب استبد بي حينها ورددت على المدرس محتداً: "يا أستاذ! كيف تريد منا أن ندرس كلاماً لشخص يضعنا دون مرتبة الحيوانات!"، عندها قرر المدرّس إنهاء الدرس بعد أن أبرق وأرعد وكال لي الكثير من الشتائم. ثم دارت الأيام وتوطدت العلاقة بيني وبين ذلك المدرّس، حتى قال لي يوماً سأجعلك تعشق الفلسفة، وهذا ما حدث.لم تنته السنة الدراسية إلا وكانت الصورة النمطية التي زُرعت في عقلي منذ الصغر بحكم البيئة قد تغيرت، تلك الصورة التي تصور الفلسفة على أنها مجرد كلامٍ لأناس لا يدرون ما يقولون ولا يعرفون شيئاً سوى الاعتراض على الناس بكلام لا يُفهم.
لم يكن الأستاذ العامل الوحيد الذي جعل نظرتي للفلسفة تتغير، لأنني قبل ذلك كنت أنظر إلى من قرأ الفلسفة بعين الإعجاب من جهة، والازدراء من جهة أخرى، ذاك أنني كنت أجدهم أقدر الناس على إيصال أفكارهم للناس وإقناعهم بها، وبالمقابل كنت لا أسمع ذكراً للفلسفة إلا وعبارات السب والذم تنهال معها، فكان يقوم في نفسي تناقضان لا أجد معهما مستراحاً.
وكنت في تلك الأيام قد قرأت مقدمة ابن خلدون، وأثناء قراءتي لها وجدت ابن خلدون يبوح بما حاك في نفسي ولم أبح به؛ يقول ابن خلدون بعد أن يناقش بعض آراء الفلاسفة ويردها: "وليس له –أي علم الفلسفة- إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين"، ثم يتابع: "فليكن الناظر فيها متحرِّزاً جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه". إذن للفلسفة فوائد إذا قرأها الإنسان، وخاصةً أنني كنت ممن عناهم ابن خلدون في حديثه، فلماذا لا أجرب ذلك؟ وقررت أخيراً قراءة الفلسفة.
كان لي صديق لديه اطلاع على الفلسفة -وللمصادفة هو من أحسن المتحدثين الذين سمعت- فأرشدني إلى كتاب معين، وأردف قائلاً: "قد يعسر عليك فهم بعض المواضيع أثناء قراءتك، ولكن ليس من الضروري أن تفهم كل ما تقرأ، المهم أن تتعرف على مواضيع الفلسفة وأن تصبح لك مُرنةً على قراءتها"، وبالفعل هذا ما حصل.
اكتشفت أن الفلسفة شيء أكبر من أن يُحصّل بتفريغ بعض الوقت لقراءة بعض الكتب
كان الكتاب -على ما أذكر- (تبسيط الفلسفة) لرجب أبو دبوس، وهو كتاب من 150 صفحة، يتحدث عن ماهية الفلسفة، وعن شيء من تاريخها ومدارسها والمواضيع التي تناقشها. لم يحالف كلام صديقي الصواب عندما قال "قد يعسر عليك فهم بعض المواضيع"، ذاك أن هذا العسر لم يتوقف عند بعض المواضيع فحسب، بل شمل معظمها، فكنت أقرأ وأقلب الصفحات كمن يقرأ الطلاسم التي لا يجد لها حلاً إلا واضعها، وتمتلئ نفسي عليّ مللاً، ولكنني لم استسلم لليأس، واستطعت بشق الأنفس متابعة الكتاب حتى أنهيته، وعندها علمت أن المشوار مع هذا العلم الجديد أصعب مما كنت أتصور.
بالرغم من هذا، كانت لهذه القراءة آثار إيجابية في نظري، ففيها اكتشفت أن ما كنت أحمل من أفكار عن الفلسفة لا تمت للصحة بصلة، وأنها بالفعل تحمل الإنسان على التفكير وإشغال العقل، اكتشفت ذلك من خلال الجزء اليسير الذي فهمت.
حاولت البحث عن كتاب آخر بجهد شخصي، ووجدت كتاب (مبادئ الفلسفة) لمؤلف يُدعى رابوبرت، وكان كسابقه صغيراً ولكن محكم الإغلاق على فهمي، إلا أن مواضيعه لم تكن جميعها تبحث في أمور مجردة، لذلك كانت صعوبتها أخف بالنسبة لي.
بدأت بعدها بتحميل الكتاب تلو الكتاب، فقرأت بعض الكتب التي لم أستطع إتمامها، إلى أن تعرفت على كتاب (الفلسفة الأسس) لنيغيل واربورتون وقرأته كاملاً، ويمكنني القول إنه كان الكتاب الأول بالنسبة لي في الفلسفة، فأثناء قراءتي للكتاب وجدت شعور المتعة الذي لطالما سمعت أستاذي يتحدث عنه لدى قرّاء الفلسفة، وخاصة في قسمه الأخير الذي يناقش فلسفة الفن ونظرياته، وأذكر حينها أنني لخصّت الكتاب كاملاً وقرأت الملخصات بعد ذلك عدة مرات، وإلى الآن ما زلت محتفظاً بهذه الملخّصات الثمينة.
كان من الكتب التي نصحني بها كثيرون (عالم صوفي)، السر الذي جعل هذا الكتاب من أكثر الكتب الفلسفية قراءة يكمن في أسلوب الكاتب الذي يسرد تاريخ الفلسفة من خلال أحداث روائية يتم تعليم الفلسفة فيها لطفلة صغيرة. كان لهذا الكتاب أيضاً سبب في تذويب الجليد المتراكم بيني وبين الفلسفة.
تعرّفت في تلك الفترة أيضاً على جزء من الفلسفة كان مغيّباً عن تلك الكتب التي قرأت، ولكنه كان أمتعها بالنسبة لي، ذاك هو الفلسفة الإسلامية. لم تكن الأفكار والأسماء في هذا المجال جديدة تماماً بالنسبة لي، إذ كثيراً ما درست أشياء متعلقة به، ولكن كان السياق مختلفاً دائماً. كان أول كتاب قرأته في الفلسفة الإسلامية يشبه الكتاب السابق، وهو (رحلة الإيمان) لنديم الجسر. وأصارحكم أن الدافع لقراءتي للكتاب لم يكن حب الفلسفة، بل عادة لطالما أرهقتني، وهي عادة الرغبة في قراءة أي كتاب يشغل جزءاً من نقاش ثقافي بين اثنين من القرّاء، إذ كنت كل ما سمعت أحدهم يتحدث عن كتاب أضعه في قائمة قراءاتي إلى أن يأتي دوره، لذلك كانت القائمة طويلة دائماً بل لا تنتهي. وبالمناسبة لم تكن هذه العادة سيئة دائماً، فبفضلها تعرفت على كتب في اختصاصات كثيرة، إلى أن اكتشفت ما يستهويني فركّزت عليه. المهم أن كتاب قصة الإيمان -والحق يُقال- كان من أجمل ما قرأت، بالرغم من أنه لم يعطني صورة حقيقية لتاريخ الفلسفة الإسلامية، وذاك ما علمته فيما بعد عندما تابعت التعرّف على هذا المجال من خلال كتب ودروس أخرى.
إذن منذ ذلك الحين بدأت علاقتي مع الفلسفة تتوطد، وأصبحت دائماً ما تشغل جزءاً مهماً من قراءاتي، وصرت أذكر الموقف الذي حصل لأول مرة بيني وبين أستاذي بالكثير من الضحك والاستهجان.
هل انتهت الحكاية بي هنا وأصبحت من قرّاء الفلسفة؟ ليس الأمر بهذه السهولة. لقد اكتشفت أن الفلسفة شيء أكبر من أن يُحصّل بتفريغ بعض الوقت لقراءة بعض الكتب، والأهم أنها ليست مجرد شيء يُقرأ ويُعلّم، فالإنسان لن يكون قارئاً حقيقياً للفلسفة إذا لم تنعكس على طريقة تفكيره وتجعله يضبط مداركه، أو بتعبير ابن خلدون "ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين".
لقد تعرفت بعد ذلك على بعض الفلاسفة والكتّاب في الفلسفة، وأُعجبت بأفكارهم أو استمتعت بالقراءة لهم، فمن الفلاسفة أفلاطون والغزالي وابن رشد ونيتشه، ومن الكتّاب آلان دو بوتون والطيب بو عزة، كما استهوتني بعض مواضيعها كنظرية المعرفة والسياسة والفن، وأدمنت قراءة تاريخها، حتى أنني اشتغلت به إلى درجة انحصار قراءتي عليه مؤخراً، وشاهدت المحاضرات والندوات، ولكني أقول بفمٍ ملآن إنني إلى الآن لم أبلل قدمي في بحر الفلسفة، ولم أعرف كنهها، ولم أرسم تاريخها بشكل صحيح في ذهني، ليس الأمر من السهولة بأن يحصّل في فترة قصيرة من العمر. على أنني سأستمر في قراءتها وفي محاولة فهمها، لعلّي أصبح من قرّائها على الحقيقة في يوم من الأيام.