أن تكون إنساناً
هذا هو الفن، وتلك هي السينما، وهذا هو البكاء الذي يصحبك في أثناء مشاهدة فيلم "معسكر أشعة إكس" من إخراج بيتر ساتلر. فالإنسان هنا هو قضية الفن الكبرى. كلّ الفنون الحقيقية لا يشغلها سوى الإنسان، وألمه، ومعاناته، فالسرّ الذي يجعل للفن والأدب قيمة يكمن في ما يجعلنا أكثر إنسانية، وأن يجعلنا متعاطفين، أن نقف قليلاً قبل أن نتعامل بعدائية وكراهية تجاه من تنبذهم المجتمعات وتشيطنهم الدول، ما يعني في نهاية المطاف، أنّ السينما تخلق فينا أثراً إنسانياً لا يزول.
نشاهد في الفيلم الشاب "علي أمير"، وهو شاب مسلم ألماني معتقل في سجن غوانتانامو ضمن الاعتقالات التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وهو السجن الأشهر في التاريخ الأسود للولايات المتحدة الأميركية، حيث كلّ سجين في زنزانة، يراقبه جنديان، رقابة دائمة، لا كي لا يهرب السجناء، بل لمنعهم من الموت، مثلما قال قائد الجنود للدفعة الجديدة من المراقبين: "مهمتكم ليست حماية المعتقلين من الهروب، الجدران تتكفل بذلك... مهمتكم حمايتهم من الموت. ألّا يقتل أحدهم نفسه".
حُذِّر الجنود المراقبون من الحديث مع المعتقلين. "علي" هو الوحيد الذي يقرأ. تأتي المراقبة "إيمي كول" بحاملة الكتب للمعتقلين، فيخبرها أنه يريد الجزء الأخير من سلسلة هاري بوتر. يحاول الحديث معها، لكنها تردّ عليه ردوداً مقتضبة وحادة، ليبدأ الصراع الكلامي بين "علي" والمراقبة "إيمي كول"، التي كان الهدف من التحاقها بالجيش الأميركي محاولة فعل شيء مهم في حياتها، ليبدأ الصراع لديها بين حقيقة المتهمين وحقيقة السلطة.
"علي" في البداية يثرثر عن الكتب وأميركا، في محاولة منه للتعرّف إلى اسم المراقبة، التي تمتنع عن إخباره، فيناديها بالشقراء، دون أن يلقى منها شيئاً سوى ردود حادة، وعنيفة، تفوح منها رائحة الاحتقار له. فهو "إرهابي" في نظرها مثلما لُقّنت. بعد فترة يثير "علي" انتباه المراقبة "إيمي كول"، فهو شخص مثقف وهادئ، عكس بقية السجناء، ويستحيل أن يكون له يد في جريمة 11 سبتمبر/ أيلول، فتتحرك بدافع إنساني، لتعرف الحقيقة بنفسها. في النهاية، لن تقدر على إطلاق سراحه مثلاً، لكنها تبحث في الملف الخاص به في إدارة السجن، لتجد أنه لم يفعل أيّ شيء يبرّر اعتقاله طوال ثماني سنوات. تستجيب لإنسانيتها وتبدأ في الحديث الودود معه، يراها قائدها ويبلّغ عنها مدير السجن، وتُحوَّل للمراقبة الليلية، كنوع من العقاب. لكنها تجدها فرصة مناسبة للحديث مع علي بعيداً عن عين قائدها الذي يتتبعها طوال النهار.
أن تنسى كلّ ما يُلقن لك، وتقف قليلا أمام مرآة إنسانياتك، لتنظر فيها إلى العالم بعيون التعاطف، لا بعيون الإدانة، وقتها ستكون إنسانًا
"إيمي كول" جاءت إلى السجن محمّلة بكلّ مشاعر العداء لهؤلاء المعتقلين، وبدأت بالتعامل معهم بما لُقِّنَته، أي إنهم "إرهابيون"، لكنها حين اقتربت منهم لم تجدهم هكذا، أو على الأقل "علي أمير". وفي حوارها مع جندي صديق لها، يخبرها "أنّ من قاموا بأحداث سبتمبر/ أيلول ماتوا في الطائرة، هؤلاء لا ذنب لهم". اقتربت من "علي" بدافع إنساني، أنقذته حين حاول الانتحار، ليس من طريق تبليغ الإدارة لإرسال قوات الطوارئ لمنعه، ولمعاقبته، بل من طريق التعاطف معه، وبثّ الأمل في روحه، قائلة: "لعل يوماً تتبدّل الأمور يا علي وتخرج من هنا، كي لا تموت في هذا المكان السيّئ".
يعيد الفيلم تعريف من هو الإرهابي، هل هؤلاء المعتقلون مجرمون فقط لأنهم ينتمون لنفس الديانة، والمكان الذي تنتمي إليه "القاعدة" ومنفذو أحداث 11 سبتمبر/أيلول؟ وماذا عن جريمة العقوبات الجماعية تجاه مجموعة معينة لمجرّد أنّ أحد أفراد هذه المجموعة ارتكب جريمة؟
"إيمي كول" هي الدرس الأهم لنا، التعاطف أهم من الإدانة، أن نعامل المتهمين بإنسانية، وخصوصاً من تتهمهم الدول وتشيطنهم. في الفيلم، يخبرها "علي" أنه يكره شهر أغسطس/آب، لأنه "الشهر الذي يتغيّر فيه المراقبون، ففي البداية يتعاملون مع المعتقلين على أنهم مجموعة من الحيوانات الأشرار، وأنهم جاؤوا لمراقبة المعتقلين، ليعلموا بعد ذلك أننا لسنا كذلك".
في النهاية، تكتب "إيمي" رسالة إلى علي: "أحبك يا علي بصدق، أنت لست شريراً في نظري، بل إنسان صالح"، وتأتي له بالجزء الأخير من هاري بوتر. فأن تنسى كلّ ما يُلقن لك، وتقف قليلاً أمام مرآة إنسانياتك، لتنظر فيها إلى العالم بعيون التعاطف، لا بعيون الإدانة، وقتها ستكون إنساناً.