أن تعيد كتابة نص مفقود

01 ابريل 2023
+ الخط -

قبل سنتين تقريبا، كتبت نصا قصيرا بعد أسبوع تقريبا من انتهائي من قراءة كتاب "السجينة"، لمليكة أوفقير. للأسف، فقدت ذلك النص، وكل محاولاتي لاستعادته باءت بالفشل، خصوصا محاولة إعادة كتابته عبر الذاكرة، بتقنية التدوير، أو اعتمادا فقط على الإحساس الذي خلفته في نفسي قراءة ذلك الكتاب، وهو إحساس لا ينسى.

أسفي ليس مصدره أن يكون ذلك النص جميلا، فهذا أمر غير كاف للأسف. لكني أحسسته فعلا قطعة حقيقية من كياني، وقد انعكست أخيرا أمامي على الورق، الأمر الذي لا يحدث معي كل مرة، لا بالصدفة ولا بالتدبير.

والآن، أسفي يتعمق أكثر كلما تذكرت أني فقدته، وكلما طال الزمن أكثر وابتعدت تلك الذكرى وتعتقت، وتضببت سطوره أكثر في خيالي، وربما كونه نصا مفقودا هو ما يجعله الآن ذا قيمة استثنائية بالنسبة إلي، بحيث لو وجدته وقرأته لاكتشفت بسرعة أني كنت أبحث عن معادل لإحساسي بمأساوية كتاب "السجينة" وليس عن نص من خمسة سطور، وهي في حقيقة الأمر مأساويةٌ تفوق مأساوية الكتاب، تلك التي عشتها طيلة ذلك الأسبوع. بالتالي ربما حتى الكتاب لم يهمني كثيرا، بقدر تطابقي بإيحاء وإيعاز منه مع مأساويتي الخاصة، وهي مأساوية من الصعب علي تحديد جذور لها في حياتي التي أعيشها أو في ذكرياتي الواعية والباطنية أيضا، إذ إن حياتي كانت دائما آمنة ومطمئنة، وذكرياتي كانت دائما عادية جدا، بحيث لا يمكن اعتبارها أبدا ذات شأن كبير كي ترتفع إلى مستوى المأساوية.

لكن، رغم ذلك، أريد ذلك النص، أريده الآن بأي ثمن، إنه نص مفقود، وكل ما أريد كتابته أكثر هو النصوص المفقودة، أن أكتبها مفقودة كما هي.

الأمر ليس مستحيلا بالكامل، أن تعيد كتابة نص مفقود، كإعادة اصطياد نفس السمكة الصغيرة جدا التي أفلتت من الصنارة بعد أن سحبتَ بها الخيط حتى الشاطئ، قد أنجح في ذلك إن خصصت له كل حياتي، حياة كاملة بلياليها الطويلة ونهاراتها المشمسة والمطيرة قد تكفي لاستعادة نص مفقود من خمسة سطور أو حتى ستة. ربما يستلزم الأمر أقل من ذلك بكثير، والأقل أيضا من الأرق، ومن التركيز النّيرفانيّ الطويل في بياض شريط حياة ممحوة.

ربما لتتذكر نصا كتبته عن كتاب، عليك قراءة كتاب آخر لا يمت لذلك الكتاب بصلة، وأن يكون كتابا مفقودا بكامله، وألا تبحث عنه أبدا، بل أن تجده بالصدفة المحضة بين يديك، كأن ترث ميِّتا، ويكون ذلك الكتاب هو أهم ما في تلك التركة، أن يكون بالصدفة مثلا هو "كتاب الموتى الفرعوني"، بحيث أيضا يكون في تلك الحالة اسما على مسمى. لن تتذكر أبدا متى قرأته، ولا متى ستقرأه، فقط سيكون بإمكانك مطابقة مجموعة كبيرة من الأحاسيس المشوشة ببعضها، كأن تصير الأهرامات زنازين للموتى، بينما الروح تحفر نفقا في الصخر بحذر شديد، وعلى مراحل، من زمن الخلود، لتفر أخيرا.

هذا بالضبط ما فعلته مليكة أوفقير وعائلتها، لقد حفروا النفق، وهربوا أخيرا، لكنك أنت الذي تقرأ، ستشعر بخيانة كبيرة إزاء ذلك، إزاء قراءة كتب مأساوية للغاية، وبأن كل حياة مهما كانت عادية كحياتك، فهي في جوهرها مأساوية أكثر من أي قصة، أكثر من قصة عائلة أوفقير في كتاب السجينة وهم يحفرون نفقا بأظفارهم، كي يهربوا في النهاية من الزنازين، ومن الكِتاب، بينما ستبقى أنت، كقارئ، لوحدك هناك، عالقا في كل زنازينهم، منسيا داخل سجن نفسك بشماتة غريبة، لم تتوقعها حين كنت تبحث فقط عن تسلية بالقراءة، متجاهلا بعنادٍ خطورة سلاسة الحكي وانحداره السهل، التي تقودك أخيرا وفي غفلة منك إلى وعورة العودة ومحنتها.

قد أحتاج أيضا إلى إعادة قراءة كتاب السجينة، للبحث عن نص آخر مفقود كتبته عن كتاب أسرار الموتى الفرعوني، ونسيت أني كتبته وفقدته، وهكذا إلى ما لا نهاية، محوّلا حياتي الآمنة إلى متاهة، وذكرياتي الجميلة إلى كوابيس.

سوى أني لا أؤمن أبدا بإعادة قراءة كتاب، خصوصا الكتب التي تركت أثرا في نفسي، إعادة قراءتها هو مسح كامل لذلك الأثر، وهذا هو ما لا أريده، بل أريد لذلك الأثر أن يتعمق أكثر بالنسيان والفقدان والتلاشي الموميائي البطيء، وأن أتذكر فقط الشيء القليل، الأقل. بحيث لا يمكن أبدا الخروج من الذاكرة بحفر الأنفاق، ولا إيجاد شيء ضائع بالبحث عنه في الماضي، بل بترقبه في المستقبل، مستمتعا أكثر بشاعرية نص مفقود إلى الأبد في الضباب اللولبي اللانهائي الذي أمامي، والذي داخلي، حيث الشعر شبح نفسه، ورحلة مطاردته "الإيثاكيّة"*، أهم بكثير من الإمساك به..

*الإيثاكيّة: نسبة إلى قصيدة شعرية للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، عنوانها "إيثاكا".

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.