أن تصل ثانيةً.. ولكن
أن تُقرّ بالخسارة حين تحدث، لونٌ من الشجاعة لكنّ انحباسك فيها وتمحورك حولها بقيّة العمر، حماقةٌ وانهزام، لا يليقان بصاحب ثورة. كما لا يصحّ إنكار ما حدث والادّعاء بأنّ شيئًا مزلزلاً لم يحدث والانحباس في قشيريّة شعار "الثورة مستمرّة" كأنّها حتميّة قدريّة، أو سيرورة بداهيّة منفصلة عن عواملها وظروفها وأداءات أصحابها.
صحيحٌ أنّ ما تعرّضت له الثورة وجيلها، فادحٌ ومزلزل وأثره ممتدٌّ ربّما لأجيال قادمة، لكنّ مطلق القمع وإن كان سببًا، ليس مبرّرًا لتقبل الانهيار أو التخلّي عن المسؤوليّة تكاسلاً أو "فرهدَةً" ولا استطاعة.
وإذا كانت السلطة تقوم بدورها (الذي اختارته لنفسها وتتقنه على نحو صاعق) بجرائم وانهيارات لا منتهية على كلّ صعيد، فعلى جيل الثورة القيام بدوره في المقابل، توعيةً وتشبيكًا وتحريضًا، وقبل ذلك صياغةً للإرث الذي سيُترك لمن بعده (ذلك الحمل الثقيل الذي نخجل منه هربًا من الاعتراف للذات بانكساراتها المزلزلة).
كما أنّ ادّعاء "الثورة مستمرّة" دون الإقرار بانتكاستها المزلزلة ولا إدراك الموضع الحالي، عَرَض آخر للدوّامة التي تبتلعنا منذ سنين، ولا تبشّر بخطى في الاتّجاه الذي تحتاجه تلك الثورة لتستمرّ، أو تستعيد حياتها وحراكها، لا بأدوات صورتها الأولى بالضرورة، إنّما بما يعاصر اللحظة ومعطياتها ويواكب الجيل الذي لن تقوم إلا بما بفهمه هو ويتفاعل معه ويرى نفسه متحقّقًا فيها.
لم ننهِ دورنا بعد لنكتفي بالبكائيّة السنوية في كلّ ذكرى (إنّما نتذكّر ما فُقِد) وهو انطلاقٌ مختلّ، واستسهالٌ في غير موضعه: هُزِمنا لأنّهم كانوا أشرارًا ونحن ضحاياهم، لنقضِ بقية العمر كضحايا.
ادّعاء "الثورة مستمرّة" دون الإقرار بانتكاستها المزلزلة ولا إدراك الموضع الحالي، عَرَض آخر للدوّامة التي تبتلعنا منذ سنين، ولا تبشّر بخطى في الاتّجاه الذي تحتاجه تلك الثورة لتستمرّ
إذا كنّا منينا بالخسارة في معركة 25 يناير، فلنتعامل كخاسرين في معركة، ننطلقُ منها ولا ننحبس فيها كما لا ننكرها، دون انهزامٍ أو تسليم. ودون تخلٍّ عن الحلم الذي، كما قالت لي صديقتي اليوم: كجرائمهم لا يسقط بالتقادم!
لم تتجاوز السلطة تلك اللحظة عقابًا عليها أو هلعًا منها، وما زال الرفيقات والرفاق يدفعون أعمارهم وحيواتهم في المعتقلات والمنافي عقابًا على الحلم والمحاولة، فكيفَ نتجاوزها نحن اكتفاءً بالتحسّر على الوصول الخاطف الفائت واللعن على السحق الممتدّ كأنّه بلا نهاية؟ ألا يُنتظر منّا نحنُ إنهاء ما بدأناه أوّلاً قبل الكفّ أو "الاعتزال"؟
ألا يُنتظر إعادة صياغة ما جرى (جماعيًّا كما كان الحدث)، مع نقده ذاتيًّا، دون الوقوع في جلد الذات على الجانب الآخر، انطلاقًا منه لما يليه مما يستحقّه هذا الوطن، بعيدًا عمّن سيقوم به ومتى وكيف؟
لا أناقشُ هنا نطاعات المرتاحين للاختباء من ضرورة المواجهة خلف تحميل الثورة وجيلها مسؤوليّة انحطاطات اللحظة وانهيارات الماضي بتسميته فشلاً أنتجته في ادّعائهم: غياب القيادة/التنظيم، تشتت القوى، فقدان المشروع البديل، أو حتى وهي أوقح الاتهامات وأكثرها غرقًا في التلفيق، التحالف مع العسكر تمهيدًا للانقلاب..).
فهؤلاء يخشون مواجهة المجرم بجرمه فيلومون الواقع عليه الجرم، هربًا من تحمّل مسؤوليّة الاعتراف بالحق والانحياز له، في لحظةٍ يعرفون ثمن الموقف فيها ولو كان كلاميًّا. أو يُقلِقُ بعضهم سوابق ارتكابه لهذه الجريمة أو تلك، فيودّون لو وصِمَ بها الجميع بمنطق "لا أحد أشرف من الآخر؛ كلّنا مجرمون".
ولولا أنّه لا يصحّ الآن الانشغال بما دون الإبادة الحاصلة لأهلنا، وموقع السلطة منها (ضمن حزمة انحطاطاتها المتكدّسة)، لفنّدنا ما يدّعون ورددنا عليه بما يليق، لكنّ الوقت أدعى لتركيز الجهودِ حيثُ وجب (معارك وخصوم)، وتأجيل ما سواها إلى وقته إن حان.
تعودُ الذكرى هذه السنة، ونحن في أحطّ لحظاتنا مطلقًا، لا لفشلنا في إيقاف الإبادة فحسب، ولا تموضع السلطات المستعربة وشراكتها هي وغالب الغرب "الديمقراطي"، إنّما كذلك في قبولنا نحن بهذه الدرجة المهينة والمسلّمة من الفشل، والاختبار للإنسانيّة كلّها والطلائع التحرّريّة في المقدّمة نتائجه باقية وممتدّة، بقدر ما هي متعلّقة بثلّة من المقاومين الصامدين في قطاعنا المغدور بعد أن خذلناهم كما خذلهم الجميع.
لكني رغم ذلك، غير قادرٍ في ذهني على فكّ الرابط بين 25 يناير و7 أكتوبر، باعتبارهما لحظتين لعدالة خاطفة لم تدُم، بقدر ما يوجعنا انخطافها ولا دوامها وثمنها الفادح، بقدر ما تظلّ تذكرنا بقدرتنا على الفعل والوصول وانتزاع الحقوق.. كما تؤكّد لنا استطاعة إعادتها مرّة أخرى حتى تحقق الحريّة.