أطفال غزة ونظريات التربية والتعليم
كأستاذةٍ في طرائق التدريس ومختصّةٍ في التعليم والتعلّم، أحاضر عن إدماج المتعلمين في عملية التعلّم عبر استخدام اللغة والنشاطات التي تحترم الجميع وتُراعي مشاعرهم وخلفياتهم ومستوياتهم مهما اختلفت، وأنصح الأساتذة الذين أعمل معهم على تضمين هذه المفاهيم في ممارساتهم التعليمية. ويحوز مفهوم الرفاهية أو الصحة النفسية للمتعلّم على أهميّةٍ كُبرى، المفهوم الذي شقّ طريقه بسرعة إلى عالم التربية في السنوات الأخيرة ليصبح من أهم المواضيع التي أجد نفسي أدعو إليها خلال عملي مع طلاب كلية التربية والتربويين.
وتشمل الصحة النفسية للطلاب تأمين بيئة تراعي مشاعرهم والجانب النفسي لهم، وتصميم التجارب التعليمية التي تحاكي الأحداث الاجتماعية لجعل الصف التعليمي بيئة محبّبة للمتعلّم. من شأن كلّ ذلك، أن يشعر الطالب بالأمان خلال تفاعله مع أقرانه ومعلميه، ويتمتع بالطمأنينة التي يحتاجها أي طفل لينمو بشكل سليم.
وجاءت أحداث غزة وصور الأطفال، أطفالٌ ليسوا في صفوفهم كما ينبغي للأطفال أن يكونوا في شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل! لا يجلسون مع أقرانهم، لا يتلقون أيّ تعليم مدرسيّ، ولا حاجة لتدريب أساتذتهم حول كيفية تصميم تجارب صفية تحاكي حياتهم، فحياتهم غير حياة صغار العالم، حياةٌ بعيدةٌ كلّ البعد عمّا يفهمه المنظرون التربويون في عالم الأبحاث والدراسات، حياة لن يُكتبَ عنها في الأدبيات، ولن تُصاغَ لها التجارب التعليمية لينقلها الأساتذة ويستفيدوا منها في حياتهم العملية. لا حاجة لتدريب أساتذة غزة على كيفية خلق بيئة صفية آمنة لطلابهم، فصفوفهم ليست مكانًا لتعلم الرياضيات والعلوم واللغات، بل ملاجئ لهم ولمن بقي على قيد الحياة من قصف عدوّهم.
والحال هذا، أيّة أدوات نستخدم لقياس مشاعرهم؟ من صمّم تلك الأدوات، وفي أي بلادٍ، وعلى أيّ تلاميذ جُرّبت؟ كيف نصمّم لهم نشاطات تعليمية تتضمّن تفاعلاتٍ اجتماعية؟ وعن أيّ تفاعل اجتماعي نتحدّث أصلًا؟! أين التربية الحديثة من أطفال غزة؟ وأين مبادئ الدمج؟ وأيّ دمج هو ذاك الذي نقرأ عنه في أدبيات التعليم؟ أين المدرسة؟ أين المتعلّم؟ أين المعلّم؟ أين الكتاب في بلادٍ اختفت فيها كلّ معالم الحياة التي نعرفها؟ من ندمج؟ وبأيّة بيئةٍ ندمجه؟ بيئةٌ تُبتر فيها أطراف الأطفال، بيئةٌ ينزف أولادها دمًا، وهم يهيمون بين الجثث بحثًا عن وجه مألوف، أيّ وجه من وجوه عائلاتهم!
حياة الأطفال في غزة غير حياة صغار العالم، حياةٌ بعيدةٌ كلّ البعد عمّا يفهمه المنظرون التربويون في عالم الأبحاث والدراسات
يصرخ أحدهم متعرّفًا على جثة أمّه من شعرها، يسمع نحيبًا من تحت الركام يستغيث أن ساعدوني، وتسأل طفلة الطبيب إن كانت حيّةً أو أنّها ماتت! عن أيّ دمج، وعن أي تجارب تعلميّةٍ نتحدث؟ وعن أيّة بيئة آمنة نُنظّر، والعالم كله، بجيوشه القاهرة وعتاده المتطور وأسلحته التي يتباهى بتطورها، قد تآمر على طفل صغير، فزجّ به في معسكر اعتقالٍ، كلّ معتقلٍ فيه بريء، يمارس عليه أفظع أشكال التعذيب والعنف، ويحرمه لا من أبسط حقوقه في التعليم فحسب، بل حتى من لحظات الأمان مع أمه، واللعب مع أقرانه، والنوم قريرًا حينما يحلّ الظلام.
أكتب كلماتي هذه بينما يصدح التلفاز في الخلفية متحدّثًا عن مجزرة جباليا. أنظر خلفي، فأرى الأطفال في الشاشة يقفون فوق الأنقاض والدمار. ربّما كانت هذه الجبال من الركام المدرسةً التي ينبغي أن يتعلموا فيها كما يفعل باقي أطفال العالم في شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل. كيف لي أن أحاضر عن دمج المتعلّم، وأنا أعرف أنّ ما أتحدث عنه لا يشمل أطفالًا، هم أكثر فئات العالم هشاشة في يومنا هذا؟ كيف لي أن أحاضر عن احترام الاختلاف، وأنا أرى العالم يستثني آلاف الأطفال من أدنى حقوقهم في العيش والعائلة والهوية؟ كيف لي أن أحاضر عن مراعاة المشاعر وبكاء الأطفال يتصاعد من هاتفي وتلفازي وشاشة حاسوبي كلّما خسر أحدهم أفراد عائلته... كلّها؟
أنتجت التربية النظريات التي تهتم بالطفل، وتُولي اهتماماً عالياً بصحته النفسية والعقلية والجسدية، وبنت له المدارس النموذجية، ليتعلّم ويتفاعل مع محيطه ويتحرّك براحة لينمو، لكني أصبحت أخجل أن أتبنى تلك النظريات الناعمة لأني تيقنت أنها أُنتجت لتخدم الصغار بانتقائية في عالم النفاق وازدواجية المعايير. استوردنا هذه النظريات، وآمنا بها لنجد أنّ من أنتجها استثنى طفل غزة بكلّ وقاحة، بل أنتج وحوشًا شرسةً، إن لم تأخذ حياته، شوّهتها.